هل يمثل “الدين” عنصرًا من عناصر التكوين الاجتماعي، كما يؤكد “عصمت سيف الدولة” في كتابه “عن العروبة والإسلام” 1986؟
هذا هو التساؤل الذي نود في حديثنا هنا، عن الإسلام ومفهوم الدين مقاربته؛ أو بالأحرى مقاربة الملامح الأساسية للإجابة عليه.
ولعل أول ما يواجهنا في هذا الشأن، هو ما تتضمنه عبارة “عناصر التكوين الاجتماعي” من دلالات، وما تشير إليه من معان. إذ إن هذه العبارة في حقيقة الأمر يمكن أن تُفهم على أحد معنيين:
الأول، أن التكوين الاجتماعي هو “تكوين حضارة” وأن عناصر هذا التكوين هي عناصر حضارية، اكتسبها الإنسان عبر التكوين الاجتماعي، وتاريخه الممتد إلى أعماق التاريخ. ومن ثم فالدين هو أحد هذه العناصر المكتسبة والتي يمكن ـبالتالي ـ الاستغناء عنها. والدليل الذي يتم أو يمكن أن يتم سوقه، في هذه الحال أنه رغم الانتشار الواسع للدين، والتشكيل المتعدد بل المتنوع، للعقائد الدالة عليه، إلا أن هناك من ينكرونه ويعيشون دونه، أو بدونه.
الثاني، أن التكوين الاجتماعي هو “تكوين ضرورة” وأن عناصر هذا التكوين هي عناصر ضرورة، حيث إن هذه الأخيرة “الضرورة” هي انضباط الظاهرة الاجتماعية على قوانين موضوعية معروفة، أو تُمكن معرفتها قوانين ناظمة لذلك التكوين (الوجود) الاجتماعي. ومن ثم فالدين هو أحد هذه العناصر (القوانين) الموضوعية الناظمة للوجود الاجتماعي. والدليل الذي يتم أو يمكن أن يتم سوقه، في هذه الحال أنه لم ولن يوجد إنسان يعيش بمفرده قط، على امتداد التاريخ (الإنساني) إذ الإنسان كائن اجتماعي بالضرورة وليس بطبعه.
فأي من المعنيين هو أكثر صحة، ولا نقول صحيحا؟
ليكن المقياس في تحديد نسبة الصحة لكلا المعنيين، هو مفهوم الدين كما تشير إليه وتدل عليه وتؤكده، الآيات التي وردت فيها لفظة دين، ومشتقاتها في النص القرآني.. بل لعل هذا نفسه هو ما يمكننا من الوقوف على مدى التجديد العميق الذي أحدثه الإسلام في هذا المفهوم.
مصطلح “الدين” لغويًا
بداية، يمكن الإشارة إلى أن كلمة الدين جاءت من الأصل “دين”، وهو جنس من الانقياد فالدين الطاعة، ومنها جاءت المدنية والمدينة؛ وسميت المدينة حيث تقام فيها طاعة ذوي الأمر. ومن هذا الباب جاء الدَّين لأن فيه طاعة المدين للدائن مقابل أخذ وعطاء.
وجاء في “لسان العرب” أن دين عُوَّد، وقيل لا فعل له.. والدين الحال.. والدين ما يتدين به الرجل والسلطان والورع، والقهر والطاعة.. ودان الرجل إذا عز، ودان إذا ذل، ودان إذا أطاع، ودان إذا عصى، ودان إذا اعتاد خيرًا أو شرًا، ودان إذا أصابه الديِّن”. ولا يختلف المعنى كثيرًا في القاموس المحيط، إذ الدين بالكسر الجزاء، وقد دنته بالكسر دَينًا.. والدين العادة والمُواظبة من الأمطار أو اللين منها، والطاعة، والحساب، والقهر والغلبة والاستعلاء والمُلك والسلطان.. والورع والمعصية والحال والقضاء”.
وقد وردت لفظة “دين” ومشتقاتها في القرآن الكريم عددًا من المرات قدرها (101) مرة.. فإذا لاحظنا أنه من بين هذه المرات، وردت كلمة الدَّين بتشديد الدال وفتحها ستة مرات، في حين وردت كلمة الدِّين بتشديد الدال وكسرها، خمسا وتسعين مرة؛ فإنما يدل هذا على المدى الذي تبلغه هذه الأخيرة (الدِّين) من حيث الدوران في اللغة بشكل عام، وفي النص بشكل خاص.
في ما يتعلق بكلمة الدَّين بتشديد الدال وفتحها أي الاقتراض أو الاستقراض، فقد وردت كما سبقت الإشارة ستة مرات.. منها مرتان في آية واحدة من سورة البقرة. يقول سبحانه وتعالى: “يأيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ…” [البقرة: 282]. وأما المرات الأربعة الأخريات، فقد وردت في آيتين متتاليتين من سورة النساء. يقول سبحانه: “فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ…” [النساء: 11].. ويقول تعالى: “فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ…” [النساء: 12].. ويقول سبحانه: “فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ…” [النساء: 12].. ويقول تعالى: “فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ…” [النساء: 12].
أما في ما يختص بكلمة الدِّين بتشديد الدال وكسرها، وهي مجال حديثنا هنا، فقد وردت، كما سبقت الإشارة في “خمسٍ وتسعين” موضعًا.. ونظرًا لهذا العدد الكبير من المواضع التي وردت فيها الكلمة، لذا يمكننا الاقتراب من الملامح العامة للمفهوم، مفهوم الدين، كما تشير إليه وتدل عليه وتؤكده مواضع ورود الكلمة، في السياق العام للآيات التي وردت فيها.. وذلك عبر مجموعة من الخطوات المتتالية..
اصطلاح.. “دين الحق”
لعل أولى هذه الخطوات وأهمها هي تلك الخاصة باصطلاح “دين الحق”.. وهو الاصطلاح الذي ورد في خمس من آي الذكر الحكيم:
ـ يقول سبحانه: “قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ” [التوبة: 29].. ويقول تعالى: “يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ” [النور: 25].
هنا، يمكن ملاحظة الفصل الواضح بين “دِينَ الْحَقِّ” عن ما قبلها في الآية الأولى، وعن ما بعدها في الآية الثانية، عن طريق “العطف”. ولعل قائل يقول: إن حرف العطف “الواو”، يشير إلى أن ثمة رابطًا بين المعطوف والمعطوف عليه. هذا صحيح، ولكن من الصحيح أيضًا، أنه في اللسان العربي: لا تعطف إلا المتغايرات أو الخاص على العام؛ وكذلك؛ لا تعطف إلا الصفات بعضها على بعض أو الموصوفات بعضها على بعض.
ومن ثم ففي الآية الأولى [التوبة: 29]، جاءت: “لَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ”، كشرط، ضمن شروط ثلاثة توجب تنفيذ أمر القتال: “قَاتِلُوا” (حيث الشرطان الأخران: “لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ”، و: “لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ”).. أما في الآية الثانية [النور: 25]، فقد جاء العطف في: ” يُوَفِّيهِمْ… وَيَعْلَمُونَ…”، لتأكيد الفصل بين “دِينَهُمْ الْحَقَّ”، وما بعدها. وهو فصل يشير إلى أن “الْحَقَّ” هو سمة “الْدِينَ” (دِينَهُمْ الْحَقَّ)، بدليل: التأكيد الذي يلي حرف العطف: “وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ”.
فإذا أخذنا في الاعتبار، السياق العام للآيات الثلاث، في قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ • يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ • يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ” [النور: 23، 24، 25].. ولاحظنا، في الوقت نفسه، الربط المنطقي: “يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ… يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ… وَيَعْلَمُونَ…”، يتبدى بوضوح أن: من بين الدلالات التي يشير إليها اصطلاح “دِينَ الْحَقِّ”، أنه: دين “موضوعي” خارج الوعي الإنساني، ولا يتوقف على درجة الإيمان (لاحظ أن “هم” في “دِينَهُمْ الْحَقَّ” تعود إلى: “الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ”. ولاحظ، أيضًا، أنه تعالى قال: “دِينَهُمْ”، ولم يقل: “جزاءهم”).
ـ يقول سبحانه وتعالى: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ” [التوبة: 33، الصف: 9].. ويقول سبحانه: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا” [الفتح: 28].
هنا، يمكن ملاحظة أن عطف “دِينِ الْحَقِّ” على “الْهُدَى”، وإن كان يشير إلى وجود تجانس في ما بينهما، حتى يتم عطفهما، فوجه التجانس بينهما أنهما مرسلان من عند الله سبحانه وتعالى.. إلا أن ذلك العطف، في الوقت نفسه، يعني أن “الْهُدَى” شيء و “دِينِ الْحَقِّ” شيء آخر، وأن الله تعالى قد وضع “الْهُدَى” قبل “دِينِ الْحَقِّ” لتميزه عنه.
كيف؟… يتبع.