ثقافة

عبد المجيد التركي.. ومآثر قصيدة النثر الفيسبوكية (2-2)

حين ينبني النص بالكامل عند الشاعر عبد المجيد على الاعتراف الذاتي، أو النبش السيري في الذاكرة المتذمرة، فإنه يلتحم بالمتلقي، يعبر عن تذمراته ويعيد توصيلها إليه شعريا، مستعينا بقدرته المذهلة على التهكم والعبث بمسلمات المجتمع ومألوفاته، وهو يستثمر في ذلك مهاراته السردية للتفاصيل الصغيرة، والمفارقات الناجمة عن تشغيل مفاعيلها في حياتنا، وذلك يمنح النص قدرة أكبر على كسر الأنساق الثابتة، بمعنى أن نصه يكتسب هوية حداثية ناقضة، بمقدار ما ينعكس أسلوبه الخاص في التصادم مع تلك الثوابت على النص الذي تتخلق دهشته من سيل المفارقات، ومن بنيته العابثة وطرائق بناء الجمل واستدعاء الذاكرة المُؤَسِّسَة بمعجمها وعلاقاتها الدلالية ومرجعياتها:

“أناسٌ كثيرون ما زلت أشتمهم حتى الآن..

كانوا يمسكون خدي ويقولون لي: ايش اسمك يا بطل؟

وحين يقبلني أحدهم كنت أبصق في يدي وأمسح تلك القبلة.

بعضهم يمسح على رأسي وكأنني يتيم..

رغم أنني ممسك بأصبع أبي..

أبصق في يدي أيضاً وأصلح شعري المتناثر..

وأبصق ثانية في ثوب هذا اللعين بمجرد أن يلتفت.

 أبتسم للأطفال دون أن أعبث بشعرهم

وسؤالهم عن أسمائهم..

وعن فصلهم الدراسي

وعن أسماء أمهاتهم..

كان الفقيه يسألنا عن أسماء أمهاتنا..

نصف الطلاب كانت إجابتهم: “حوّاء”..

تتشابه أسماء النساء في قريتنا

ليس هناك حواء ولا نانسي ولا جمانة..

كلها أسماء عتيقة ومطمورة مثل كنز.

تضع الدجاجة بيضتها فتلتفت ولا تجدها..

تحدث نفسها بأنه حمل كاذب..

نعود بجيوب مليئة بالبيض الدافئ

ونراقب دهشة الدجاجة حين تجلس على اللا شيء”.

علينا أن نلاحظ كيف أن مكونات النص كلها تعتمد على الذاكرة المتذمرة، ما نعرفه في مجتمعنا عن طريقة الكثير من الكبار في التودد للأطفال، هي منصة الإطلاق التي سيولِّد منها الشاعر مصفوفة سخريته، وسيتصل ذلك بتذكر مصفوفة أخرى من ردود الأفعال والحيل المفضوحة:

كان الفقيه يسألنا عن أسماء أمهاتنا..

نصف الطلاب كانت إجابتهم: “حوّاء”..

لكن النص قبل نهايته بسطور يدخل في منعطف آخر، إنه منعطف لا يغاير بقية النص سياقا؛ كونه ينزع من بئر الذاكرة نفسها، لكنه منعطف أكثر ارتفاعا من الناحية الفنية، فالسردية الساخرة تتحول إلى صورة مشهدية مدهشة، وأنسنة الشاعر لحيرة الدجاجة جراء اختفاء بيضتها يصل إلى حد الجنون الشعري.

من خلال المعاينات السابقة، يمكن القول إن قصيدة النثر الفيسبوكية كما يكتبها التركي، قصيدة تتحور وتتطور بشكل كبير؛ متكئة على تواطؤ ثلاثي.. ضلعاه الأولان؛ الشاعر والمتلقي، أما ثالث الأضلاع في المثلث، فهو الفضاء الافتراضي الأزرق الذي تمثله صفحته على فيسبوك.

لكن هذا ليس كل شيء، فالمعاينات ستقودنا إلى صف آخر من النصوص، يقلُّ فيه التحام الشاعر الصريح والمباشر بقضايا جمهوره، بينما يظل التكنيك الذي عوَّد جمهوره عليه حاضرا، فيما تترقى جمل النص ومشاهده وحتى معجمه وصوره الجزئية، وتلعب النوستالجيا دورا كبيرا في تعبئة النص بالحالة الشعرية؛ التي تتحول إلى مُعَوِّض عن الالتحام المباشر بقضايا الجمهور، وبذلك يحتفظ النص بجاذبيته، وبقدرته على جذب المتلقي، يحدث ذلك بطريقة تجعلك تشعر أن الشاعر بتوالي الأيام قد ربى جمهوراً اعتاد على تجلياته، وصار قادراً على التعامل مع انفلاتاته في كل مستوياتها، وهذه سمة من أهم سمات قصيدة النثر الفيسبوكية حين يكتبها شاعر موهوب، مثقف ويمتلك حاسة عالية بالعملية الشعرية، وفي الوقت نفسه يعرف كيف يتعامل مع مزاج الجمهور:

“جمجمة مدفونة تحت غرفتي منذ مئات السنين..

أشعر بألم أسنانها المتسوسة..

سقطت هذه الجمجمة قبل أن تلقي بأسنانها إلى الشمس

وتستبدلها بسن غزال.

حين كنت صغيرا قال لي أبي: هناك بئر مدفونة..

الحي الذي نسكنه اسمه “بير التبانة”

أفكر أين ذهبت هذه البئر..

أسمع في رأسي ضجيج الدلاء

وثرثرة الصبايا

والأصوات التي كان يلقي بها الأطفال في قعر البئر

فيعود صداها مختلفا وشاحبا.

في هذه البئر سقطت مفاتيح كثيرة

من صدور النساء..

سقطت فتاة في اليوم التالي لعرسها..

سقط أطفال كانوا يلاحقون وجوههم على الماء..

أستطيع أن أرى أصابعهم المقفولة

وكأنهم عثروا على المفاتيح”.

نص السرد السيري المرتكز على ذاكرة حافلة بطفولتها كما قرأناه الآن، وكما سنقرأه في عشرات النصوص الأخرى على صفحة التركي، سيتآزر طوال الوقت مع نص المخاوف، وكلاهما نص السرد السيري ونص المخاوف؛ تشكل التفاصيل الصغيرة والملتقطات المدهشة فيهما حاملا قوى التخليق للصور الجزئية، والصور المشهدية أيضا، كما في هذا النموذج لنصوص المخاوف:

“أخاف من العيون التي تضع عدسات لاصقة..

من الأظافر الطويلة الملونة..

من صدور السيلكون..

مخاوفي كثيرة، لا أريد البوح بكل التفاصيل:

 إبرة طبيب الأسنان التي تلمع في يده كنصل..

الأورام التي يضعونها في علب زجاجية مليئة بالماء..

الهيكل العظمي المصنوع من الجبس في معمل المدرسة..

عين ذلك الولد التي سقطت على الإسفلت فداستها سيارة عمياء..

أخاف من سترة النجاة التي يضعونها تحت مقعد الطائرة..

من زوارق النجاة في فيلم التيتانك..

من مخارج الطوارئ التي لن تتسع لهلعي”.

النص برمته يعيدنا إلى نزق التركي، ذلك النزق الذي شاهدناه من خلال الطفل الذي يرفض سؤال الرجال عن اسمه، ويرفض إمساكهم بخده إلخ.. نص المخاوف هنا ليس بالضرورة أن يكون معبرا عن خوف حقيقي، هو ضرب من التعبير المختلف عن نزق الشاعر وسخريته، عن رفضه للزيف في العيون والأظافر والصدور، عن قسوة الأطباء وهي تتزيا بزي الرحمة، عن مفارقات الحياة الأكثر رعبا “عين ذلك الولد التي سقطت على الإسفلت فداستها سيارة عمياء” وعن زيف كل إجراءات السلامة؛ سترة النجاة في الطائرة، قوارب النجاة في السفن، مخارج الطوارئ في الأبنية الضخمة، لأنها ببساطة لم تنجح يوما في أداء مهامها.

جمال نص المخاوف يكمن في طريقة تنضيدها داخل النص، ومن سردها عبر آلية تكرار متوالية، تعزز ترابط الشعور بكثافتها وقوة حضورها، وتستطيع التأشير عليها عند المتلقي أيضا، وهذه خصيصة أخرى في هذه النصوص.

ينشر الشاعر عبد المجيد التركي نصوصه في الغالب دون عناوين، ولعل هذا من أكثر المتغيرات التي ترتبط بالكتابة الشعرية على فيسبوك، نشر القصائد دون عناوين تفرضه خبرة الشعراء بالمتلقي الفيسبوكي، فمن طبائع هذا المتلقي أنه قارئ متعجل، كما أنه يقرأ بدافع الفضول، وحين تقع عينه على النص، فإن على النص أن يجرجره إليه. على السطور وهي تتوالى أن تسحبه من أهدابه وتجعله يواصل القراءة، إذ هو لا يشبه القارئ القديم، القارئ القديم محدود الخيارات، أما القارئ الفيسبوكي فخياراته لا حدود لها. لذلك على النص أن يدغدغ فضوله، على الأسطر الأربعة الأولى التي تظهر له في المستطيل الأزرق أن ترغمه؛ كي يضغط على “عرض المزيد” ليواصل القراءة.

الشعراء بمرور الوقت صاروا يخبرون ذلك نتيجة ما عرفوه عن أنفسهم، وهم يصافحون منشورات الآخرين عشرات المرات كل يوم، كما خبروه من تجاربهم الخاصة في نشر نصوصهم، ومعرفتهم بوجود هذه الخاصية في التلقي الفيسبوكي.

المتلقي الفيسبوكي العجول غالباً ما يصرفه عنوان النص الشعري عن قراءته، عنوان النص الشعري في الفيسبوك نادراً ما يكون عتبة تغري القارئ بمعانقة النص، إنه على العكس من ذلك يتحول في الغالب إلى صارف للقارئ عن قراءة النص، عنوان النص الشعري الفيسبوكي ليس عتبة، ولكنه يكتسب سمة تلخيصية، من خلاله يعرف المتلقي محتوى النص، وكثيرا ما يقرر أنه لا يرغب في قراءته، يحدث ذلك حتى لو كان القارئ مرتبطا بالكاتب يتلقاه دائما ويثق به.

من هذا المنطلق فإن العنوان في النص الشعري الفيسبوكي يشبه أسماء المحلات التجارية. حين تكون في السوق تعرف محتوى أي محل بمجرد مشاهدتك لاسمه، إنه يخبرك عن البضاعة التي يعرضها. وبما أنك ذاهب دون قصد مسبق لشراء شيء معين، فإنك بدافع الفضول ستدخل محلاً لم تعرف مسبقاً الأشياء التي يعرضها.

وفيما يتعرّى النص الفيسبوكي من العنوان وإمكاناته المفتاحية، فإن على السطور الأولى من النص أن تلفت القارئ بقوة، لذلك فإن جانب التشويق السردي مهم جداً في قصيدة النثر الفيسبوكية، فحين يكتب التركي:

أعيش دون مفاتيح احتياطية

لا أحب النسخ المزيفة

ولست مضطرا لأن أكون محتاطا.

سيارتي، منذ عشر سنوات، دون عرض المزيد

يجد المتلقي في هذه الحالة نفسه أمام نص أخذ بتلابيبه، حكاية المفاتيح وطريقة اشتغال النص عليها بطريقة تحولها إلى لعبة سردية، تشعل فضول القارئ، وتزيد خاصية “عرض المزيد” فضوله فينقر عليها أو يلمسها؛ ليتجلى النص بكامله أمامه:

“أعيش دون مفاتيح احتياطية،

لا أحب النسخ المزيفة

ولست مضطراً لأن أكون محتاطاً.

سيارتي، منذ عشر سنوات، دون إطار احتياطي..

جاءت هكذا.. وأحببتها كما هي..

حتى بطاقتي الشخصية لا أحملها

وجودها يشعرني بأنني أنا الاحتياطي..

لا أضع صوري على جدران بيتي..

لست مغرماً بالبقاء معلقاً على مسمار صغير وجدار بارد

لا أطيق رؤية ملامحي متجمدة خلف إطار الصور”.

هكذا يجد القارئ نفسه ملتحماً بعادات الشاعر الصادمة والمتمردة على المألوفات، ويجد نفسه يشغف بها حتى لو كان من المهتمين بترتيب حياتهم، وأشيائهم.

حين ينقر المتلقي على خاصية “عرض المزيد” قد يجد النص طويلاً، يتضمن عشرين سطراً أو أكثر، وقد يجده متوسطاً، أو مائلاً للتكثيف، وقد يجد بعد كلمة “عرض المزيد” سطراً واحداً مثل: “فقد كان دون وجه” في هذا النص البديع:

“اللص الذي سرق بطارية سيارتي، يمتلك قدمين بسرعة الصوت

وأصابع منحوتة كالمفاتيح!!

سريع كدعوة مستجابة..

كأنه خرج من رحم الريح..

حتى كاميرا الشارع الوحيدة لم ترصد وجهه

فقد كان دون وجه”.

فحين يضغط المتلقي على خاصية “عرض المزيد” يفاجئه وجود سطر واحد هو السطر الأخير، لكن المفاجأة لا تكمن في كون المتبقي مجرد سطر واحد، المفاجأة تكمن في كون شعرية النص كلها تتركز فيه. فمن بلاغة كنايته يتخلق جمال النص، وتتعدد دلالاته، فهو كناية عن انعدام الشرف والنخوة والمروءة، وهو كناية عن قلة الحياء، وهو كناية عن شخصية متسلطة لا تلتقطها الكاميرا بطبيعة الحال.

ومن سمات قصيدة النثر الفيسبوكية عند التركي تعدد مستوياتها، فهي سهلة بسيطة وغرضية حينا، وأحياناً عميقة تتزركش بالصور، وتترفع في إحالاتها الدلالية. ولعل ذلك لا يفارق دلالة تسمية المنشور، أي منشور بـ”الحالة” فقصيدة النثر الفيسبوكية تكتب في لحظتها وتنشر بوصفها “حالة” ولهذا دون شك مصداقية كبيرة، فمعظم ما ننشره في هذا الفضاء هو حالاتنا وانشغالاتنا في لحظة النشر، وهي تنكتب تحت تأثير محفزات عديدة ومختلفة ومتباينة العمق، تبعا لمزاج اللحظة، لحظة الشاعر نفسه، ولحظة موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك أيضا، فالمتعامل مع هذا الفضاء بشكل يومي، كثيرا ما يندفع للكتابة بمحفزات يخلقها هذا الفضاء، وما ينشر على آلاف الصفحات؛ بل ملايين الصفحات فيه.. لذلك فنحن يمكن أن نقرأ للشاعر عبد المجيد التركي نصاً فيسبوكياً، يعتمد على السرد السيري، يعانق تفاصيل حياتية ويومية، ووقائع عادية اعتيادية، يغمسها بالتقاطات طريفة “ظل أصابعي يجعلها كبيرة على جدار الغرفة” ويستدعي من خلالها بعض ما تختزنه الذاكرة من حكايا الطفولة “قصة عوج بن عنق” دون أن ينسى ختم نصه بالتهكم والسخرية، كنظام متأصل في طبعه، وسمة من سمات نصوصه، وهذه التقنيات بمجموعها تمنح النص ملموسية وتعينا:

“أذهب إلى المطبخ لأغلق أسطوانة الغاز ككل ليلة

رغم أنها فارغة..

أهز باب البيت لأتأكد أنه مقفل جيدا..

أمر على أطفالي لأتفقد أغطيتهم وأنفاسهم..

ألقي بقبلة في الهواء وأغلق الباب بهدوء..

كل مساء أحدد لنفسي موعدا للنوم..

أتراجع عن مواعيدي

 لا أحب النوم حسب الجدول بالدقيقة والثانية..

أستلقي وأضع رجلا على رجل لأعد أصابع قدمي

وأحركها لأتأكد أنها ما زالت تتحرك

رغم أني لا أعاني من شيء..

ظل أصابعي يجعلها كبيرة على جدار الغرفة

أتذكر عوج بن عنق..

حدثتني جدتي أنه كان يقف في البحر ولا يغمر ركبتيه

يلتقط سمكة ويرفعها بيده ليشويها بلهب الشمس.

حين يمل من الأسماك سيقوم بالتهام الثور الذي يحمل الأرض على قرن واحد

 وينتهي كل شيء”.

وفي حالة أخرى، أو منشور آخر سنقرأ له نصاً فيسبوكياً، أكثر اكتساءً بحيثيات النصية الشعرية في أعلى تجلياتها، بما يعنيه ذلك من حمولات دلالية مرمّزة، أو شفرات كنائية، وأبنية مضمرة، واستنطاق ملحّ لممكنات مختلفة في التعبير:

“كثلاجةٍ بمزاج ساخن..

كسماءٍ مسقوفة بالإسمنت..

كقط يقف على سكة القطار ويغطي رأسه بعلبة معدنية..

هكذا أبدو

أتقمَّص الأشياء، وأقوم بدور صنبور صدئ

يقطرُ باستمرار ليلفت إليه الأنظار..

أُحلِّقُ مثل كيس بلاستيكي

تمت إحالته إلى التقاعد؛ ليتفرغ للطيران ومراوغة الريح..

ليلفت إليه الأنظار أيضا..

أختبئ مثل حبة ملح بين كومة من السُّكر،

ستلفظني النمل وتتركني وحيدا

بعد أن تنتهي من جرد غنيمتها”.

وسيلاحظ القارئ بكل سهولة أن النصين يرتكزان على السرد السيري كآلية أساسية وفاعلة في الدفع بتخلّقاتهما، لكن الفارق يكمن في خصائص أخرى، أولها طبيعة التعبير عن الفكرة، فبينما هي في النص الأول تكييف لمشاهد يومية عادية، تكتسب شعريتها مما ذكرته سابقاً إضافة إلى الصورة المشهدية النهائية للنص، فإنها في النص الثاني استجابة لتأمل عميق في الحالة، الفرق بين النصين هو الفرق بين لغتيهما وصورهما وكناياتهما، بين انكتاب الجملة محمولة على الطرافة وحدها “ظل أصابعي يجعلها كبيرة على جدار الغرفة” وبين انكتابها محمولة على التماع الفكرة، ووجع الوجود، وغزارة الاستبدالات للمألوف “أختبئ مثل حبة ملح بين كومة من السُّكر”.. “أحلق مثل كيس بلاستيكي”.. “كقط يقف على سكة القطار ويغطي رأسه بعلبة معدنية”.

بتعبير آخر فإن النص الأول يستجيب لحالته، لطبيعته كاشتغال على المألوف واليومي، ومن سمات المألوف واليومي أن نصيبه من الجوانية الوجدانية؛ لا يماثل ما يعكسه النص الجواني الوجداني من ميل إلى الانزياح، وانتقاء للمفردات؛ فهذه استراتيجياته وطبائع أدائه. لذلك  فالمقارنة بين النصين لا تعني حكما قيميا لصالح أحدهما على حساب الآخر، بمقدار ما تشير إلى السمات التي أستخلصها من معاينتهما، باعتبارهما من أدلة تنوع تجربة الشاعر، فهي تؤكد على عدم وقوع تجربة التركي في التماثل والتكرار، وهما تهمتان كثيراً ما تلقيان جزافاً على قصيدة النثر الفيسبوكية.

ليس من الممكن مغادرة هذه المعاينات لتجربة الشاعر عبد المجيد التركي في كتابة قصيدة النثر الفيسبوكية، دون الوقوف عند مجموعة من التماعاته الشعرية الساحرة، فالشعر كيفما كان شكله عموديا أو تفعيليا، أو نثريا، لا تتحقق شعريته مالم يخلق الدهشة فينا. وإذا كان ما دفعني لمعاينة تجربة التركي هو الدهشة التي أشعر بها كلما قرأت نصاً له على الفضاء الأزرق، فإن الالتماعات الجزئية التي تحتشد بها نصوصه تمثل قيمة مضافة لدهشة نصوصه في مجملها. والملاحظ أن معظم تلك الالتماعات تبرق إما من غرابة الفكرة وطريقة التعبير عنها كقوله:

 – أعيش في رقعة شطرنج

أتنقل بين المربعات البيضاء والسوداء حسب نواياي

لست الحصان

ولا الجندي

أنا ارتجاف حارس الملك.

أو قوله:

– في طفولتي كنت أتمرن على الكتابة بيدي اليسرى

 من باب الاحتياط في حال انقطعت يدي اليمنى.

كنت خائفاً من فقدان الكتابة أكثر من فقدان يدي.

أو قوله:

الظلام يعضني مثل كلب

وأنا أتحسس خوفي وأحاول تشذيب الفزع في حاجبيّ.

وإما أن تتفجر “الالتماعات” من غرابة تعريف الأشياء، والانزياح بمدلولاتها إلى ما يقع خارج التوقعات كقوله:

صوت الأبواب الحديدية هو حزن الصدأ

صوت الريح حين تدخل من النافذة هو اعتذار الزجاج المكسور

صوت قشرة البيضة هو آخر أمل للصَّفار بأن يصبح فرخاً.

وقد تتفجر الالتماعات من قوة التحديق في الفكرة نفسها كقوله:

أتمرَّن على التحديق في الأشياء

أحدّق دون أيّ هدف سوى التثاقل على اللحظة

التي ترفض المرور دون تكلفة.

وهذه مجرد أمثلة لفيض واسع من الالتماعات، يمكن تصنيف العشرات منها تحت عناوين يكفي كل عنوان منها لدراسة كاملة.

أخيرا.. فإن هذه المعاينة لتجربة الشاعر عبد المجيد التركي في كتابة قصيدة النثر الفيسبوكية، لن تزعم لنفسها فضيلة الإحاطة المتقصية بكل خصائص هذه التجربة، فهناك الكثير من سماتها وخصائصها لا يزال محتاجاً إلى تتبعه في عشرات النصوص التي ضاق بها الحيز المطلوب مع الأسف الشديد؛ ويبقى القول إن هذا التجلي على ما فيه من إبداع عال وابتكارات مذهلة، ليس سوى جانب واحد من اشتغالات شاعر كبير –قد يتهكم التركي بهذا الوصف فهو لا يطيقه– تتميز تجربته بالتعدد والعمق المؤسس على ذاكرة واعية وعين بصيرة وثقافة حقيقية. أما ما قادني إلى هذا الجانب من تجربته بالذات، فهو كونها تقع ضمن ما يتموضعه هذا الكتاب من جهة، ثم كونها تقع في نطاق منتجه الأكثر إلحاحاً عليّ كمتلقٍّ في الفضاء الأزرق، قبل كوني مهتما بالكتابة عن تجارب الشعراء وشغوفا بمعاينتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock