في طريقي إلى البيت وأنا عائد من عملي قابلت صديقا فسألته عن حاله. فقال بنبرة قلق: يعني ! .. الأمور ليست على ما يرام.
قبل شهرين قدمت طلب قرض لشراء شقة، وحتى الآن لم يبت المصرف فيه. وكل يومين يطلب شهادات أو وثائق. ومن المؤكد أنهم سيرفضون الطلب في نهاية المطاف، فأنا أعرف حظي.
وقد سمعت كلاما مشابها من صديقة أخرى عن ابنها. فهو مقبل على اختبارات الثانوية، لكنه لا يقدر المسؤولية أبدا، ولا أراه يفتح كتابا، ومعظم وقته يضيعه إما في ألعاب الڤيديو، وإما في السهر مع أصحاب السوء من زملائه. وطبعا لن ينتظره – كما قالت – إلا الرسوب والركل من المدرسة، فهذا ابني وحظه نحس مثلي.
وتلك مصيبة كبرى حدثني عنها أحد أقاربي. فابنته التي أنهت دراستها والحمد لله، طلب يدها شاب متفوق ومن عائلة محترمة، ووافقنا وفرحنا بخطبتهما. الشاب جاءته فرصة للدراسة في أوروبا على حساب الشركة التي يعمل بها، وهذا مستقبله ولا نستطيع منعه. لكن ابنتي مصرة أنه لن يعود، وإن عاد فسيكون متأبطا ذراع عروس أجنبية. ولا تتوقف عن ندب حظها العاثر.
كلام هؤلاء الأصدقاء جميعا عن أحوالهم وأحوال أولادهم ذكرني بالمثل المصري العبقري:
”يا مقدر البلا قبل وقوعه“
وفي رواية أخرى: ”لا تقدر البلا قبل وقوعه“
في هذا المثل العبقري لوم وتقريع لمن يفعل ذلك، لأنه فعل عديم الجدوى، ولا ينتج عنه سوى الهم والحزن.
ومن يفعل ذلك هو إنسان قلِق، لا يرد على باله إلا المصائب، إنسان يسكنه القلق. وأنا أقصد فعلا تعبير ”يسكنه“ القلق، يعشش في كيانه، وليس صورة مجازية جميلة، بل وصف دقيق لواقع هذا الإنسان الدائم القلق، في كل لحظة، وفي كل ساعة، وفي كل يوم في حياته. ومثل هذا الإنسان بحاجة إلى مساعدة نفسية.
لكن علامَ يقلق؟
هل قلقه على شيء يملك التحكم فيه؟
لا، لأنه يقلق على أمور وأشياء تتعلق بالمستقبل. ومن منا يستطيع معرفة ما سيجري في المستقبل، أو التنبؤ به، فما بالك بالتحكم فيه.
فقلق هذا الإنسان لا طائل منه ولا نفع. بل إنه ضرر كله.
وهل قلق هذا الإنسان مبني على حقائق؟
لا، لأنه كله من لَبنات خياله، ومن نسج أوهامه، ولا يقوم على أي أساس قويم.
وما عواقب هذا القلق؟
أول ما يقود إليه مثل هذا القلق هو الخوف من المواجهة.
فمن يساوره القلق حيال الامتحان الذي عليه أن يجتازه بعد أسبوع مثلا، أو المقابلة التي عليه حضورها، يخاف الامتحان أو المقابلة، ويخشى من العواقب، التي يصور له خياله أنها سيئة وليست في صالحه. وهو إن لم يتغلب على هذا الخوف، بمواجهته وجها لوجه، فسوف يكبر وينمو حتى يقهره.
وكثير منا يلجأ لمواجهة الخوف مؤقتا بمحاولة تجنبه. إما بالتلهي وقتيا في مشاهدة التلفاز، وتمنية النفس بالانكباب غدا على الدرس لاجتياز الامتحان، أو التحضير استعدادا للمقابلة، وإما بقضاء الوقت في التسوق الإلكتروني، وإما بإزجائه في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي، وإما بالانخراط في التدخين، وإما بالانكباب على شرب الكحول.
وكل هذا سبل هروب وليست وسائل مواجهة.
فما العلاج؟
أول خطوة في علاج القلق هي ألا نفكر لا في الماضي الذي انقضى، ومن المستحيل تغييره، بل من العبث التفكير في ذلك، ولا في المستقبل، الذي لم يولد بعد، ولا نعرف ملامحه، ولا نملك وسيلة مؤكدة حسية أو غير حسية للتنبؤ بمقدراته.
وألا نهتم إلا باللحظة التي نحياها، وهي الآن. فاللحظة الآنية أنت تعيشها، وتعرف تفاصيلها، وتستطيع التحكم فيها، بل تستطيع – إن أردت – تغييرها.
وقد لا يحتاج الإنسان القلق إلا إلى جلسة أو اثنتين لدى أحد المعالجين النفسيين الماهرين، الذين لديهم القدرة على مخاطبة العقل الباطن، أو اللاوعي، وإقناعه، ربما بواسطة التنويم الإيحائي، بتغيير تفكيره، وأفكاره، وتغيير نفسه.
وهذا شيء جربته أنا نفسي، وقد أحكي لكم عنه فيما بعد.