تتصاعد سنويًا أزمة قضايا إثبات النسب للأطفال الذين يولدون نتيجة زواج غير موثق رسميا (عرفي)، أو بسبب علاقات محرمة، وسط صمت تام من الجهات المعنية، وعجز واضح من الدولة عن المواجهة.
وتشير الإحصاءات الرسمية، إلى وقوع 400 ألف حالة زواج عرفي سنويًا في مصر، الغالبية العظمى منها في المناطق الفقيرة، كما توضح الأرقام أن 41 ألف طفل يقعون سنويا ضحايا لعدم إثبات نسبهم لآبائهم، في ظل حالة التكتم التي تلجأ إليه الأم، عندما يرفض الأب الاعتراف بطفله منها، وهو ما يدفع الكثيرات إما للتخلص من الطفل، ولو بإلقائه أمام دور الأيتام والمساجد والجمعيات الخيرية، أو بتسجيله باسم أحد أقاربها، وغيرها من الجرائم التي تنتهي إلى وجود إنسان بلا هوية، وبلا شهادة ميلاد، وبلا حقوق اجتماعية من أي نوع.
ترتبط قضايا إثبات النسب ارتباطًا وثيقًا بالشريعة الإسلامية، التي وضعت نظامًا لا يمكن تجاوزه في هذا المجال، لكن تطور المجتمعات، ودخول تقاليد متنوعة على المجتمع المصري، جعل من الضروري، تجديد الفقه في هذا الشأن للاستفادة من التقنيات الحديثة، التي باتت قادرة على إثبات نسب الطفل لوالده، أو نفيه بشكل قاطع، مثل تحليل “دي إن إيه”.
صمت علماء الدين
ورغم تصاعد الأزمة بشكل بات يمثل تهديدًا للتماسك والسلم الاجتماعي، فإن المؤسسة الدينية الرئيسة في العالم الإسلامي، وهي الأزهر الشريف، تمارس فضيلة الصمت المطبق، إزاء تلك القضية، تاركة المجتمع يموج بالخلافات، والقضايا تتكدس أمام المحاكم، دون أن تجد سبيلها إلى الحل.و المثير في الأمر أن المؤسسة الأزهرية، تصمت أيضا على غياب الاجتهاد في هذه القضية الشائكة، ولا تدعم أو حتى تناقش الآراء التي تخرج من هنا أو هناك، بحثا عن مخرج لتلك الأزمة.
وإذا وضعت القضية على طاولة الإفتاء، نفاجأ بأن الفتاوى الصادرة تتجاهل تمامًا العلم الحديث، وتعتمد على آراء فقهية أجمع عليها العلماء الأوائل، الذين لم يجدوا وقتها أي معين علمي يساعدهم على التحقق من النسب، فخافوا من اختلاط الأنساب، وتشددوا في هذه المسألة، وهو أمر أصبح بحاجة إلى المراجعة بعد تطور العلم بما يتيح حسم نسبة الطفل لأبيه الحقيقي وعدم الوقوع في اختلاط الأنساب.
الدكتور سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن
نسب ابن الزنا
ويرى الدكتور سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن، أن سعي الدولة لإثبات نسب جميع الأطفال الذين يعيشون على أرضها، أمر شديد الأهمية، ولا يجب أن يترك دون تنظيم دقيق يتجدد مع تطور الزمان؛ حماية للبناء الاجتماعي من آفات مدمرة، داعيا إلى حسم هذه القضية جذريا بالاعتماد على تحليل “دي إن إيه” لحسم نسبة الأطفال لأبائهم، حتى ولو كانوا أبناء زنا، وتلافي مخاوف اختلاط الأنساب، التي أدت إلى تشدد العلماء الأوائل.
يقول “الهلالي” إن جمهور الفقهاء أكدوا نسبة ابن الزنا لأمه، لكن 88 من كبار التابعين أقروا بتحميل الأب مسؤولية الزنا، ونسبة الطفل إليه، ومن هؤلاء: الحسن البصري، وسليمان بن يسار، والشعبي، وذلك حفاظًا على هذا الطفل من الضياع.
ودعا الهلالي إلى فتح باب الاجتهاد والمناقشة في هذا الأمر، حتى لا تزيد الفجوة بين الواقع المعاش وآراء الفقهاء المعمول بها، لافتًا إلى أن نسبة الولد لأبيه ولو من الحرام، أفضل لأن الرغبة في عدم ترتيب أثر على فعل الحرام، لا تقف أمام حفظ حياة طفل بريء من الضياع.
وأوضح أيضا أن العلماء يقرون بأنه ليس كل حرام لا أثر له، وإلا فكيف يتم إنفاذ تصرفات شارب الخمر عمدًا، عقابا له، مشددا على أن الإجماع المزعوم على منع نسب ولد الزنا للزاني، يعارضه إجماع آخر، وهو مشروعية الاستلحاق ممن يطلب هذا النسب بشروطه، وهي أن يكون الولد منه، وألا ينازعه في ادعائه أحد.
ويستشهد الهلالي بقول ابن تيمية: “لو استلحق مجهول النسب، وقال إنه ابنه، لحقه باتفاق المسلمين، إذا كان ذلك ممكنا، ولم يدع أحد آخر أنه ابنه، كما أن الإجماع على غير ذلك لا سند له، بل هو قائم على التناقل من بعض الكتب ولا يعرف له مصدر”، لافتا إلى أن النسب فى الإسلام درجات، وفق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك، وهو ما يعني أن الإسلام يعرف تدرج الأنساب، وهو معمول به في كل دول العالم. ويتسأل الهلالي: “أين يقع نسب ابن السيد من زوجة حرة، ونسب ابن السيد من الأمة يوم أن كان معمولًا بنظام التسري؟.. وأين يقع نسب ابن الرجل من زوجته، ونسب ابن الرجل من موطوءته بشبهة؟”.
عقاب المجني عليه
وقال: “ذهب أكثر الفقهاء إلى تنسيب ابن الوطء بشبهة للفاعل، وصورة ذلك أن يطأ الرجل امرأة أجنبية في فراشه، ظنها زوجته، وهي في الحقيقة جارته، أو أخت زوجته، أو زوجة أخيه، وهنا ذهب جمهور الفقهاء إلى استبراء تلك المرأة، فإن كان لها زوج امتنع عنها حتى تضع الحمل الذي ليس منه، وينسب المولود للفاعل أبًا، وللمرأة أمًا، فإن نازع الزوج، وقال هو مني وليس من الفاعل، احتكم للقيافة عند الجمهور، وينسب للاثنين جميعًا عند الحنفية”. ويعقب الهلالي: “هل يجيز الفقه الإسلامي ذلك في الوطء بشبهة، ولا يجيزه في الزنا؟”.
ولفت الهلالي إلى أن للزنا عقوبة محددة وهي إقامة الحد، ولا يجب بالتالي إضافة عقوبة أخرى تلحق بالمجني عليه، وهو الطفل الذي يحرم من النسب، لقاء جريمة لم يرتكبها، وإنما هو من ضحاياها، داعيا إلى فتح باب الاجتهاد على مصرعيه لإنهاء الجدل وحسم الحلول الشرعية لهذه القضية، التي تهدد المجتمع.