“إذا يئست من إصلاح الأزهر فإنني أنتقي عشرة من طلبة العلم، وأجعل لهم مكانا عندي في عين شمس أربيهم فيها تربية صوفية مع إكمال تعليمهم” كان هذا اقتراح الأستاذ الإمام محمد عبده على صديقه جمال الدين الأفغاني إبان إصدارهما لمجلة العروة الوثقى في باريس.
كانت العبارة السابقة للأستاذ الإمام واحدة من الشهود المتعددة التي يسوقها الباحث والأكاديمي المتمرس في علوم التصوف محمد حلمي عبدالوهاب في إصداره الأخير (التصوف في سياق النهضة…من محمد عبده إلى سعيدالنورسي)، والذي صدر ضمن سلسلة إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية، ويدور حول مركزية وحضور المنحي الصوفي في فكر ومسار أعلام النهضة العربية، وعلى رأسهم الأستاذ الإمام محمد عبده.
على مدار السنوات العشر الماضية أثرى حلمي المكتبة العربية بعدد من الدراسات والبحوث الفلسفية القيمة، مثلت بلاشك إضافة هامة لمساحات بحثيه غير مطروقة، يأتي على رأسها (التجديد الفلسفي في زمن النهضة…الفاعلون والسياق)، (ولاة وأولياء .. السلطة والمتصوفة في إسلام العصر الوسيط)، (الدين والسلطة والمجتمع…مقاربات نقدية)، (المقدنس والمدنس الديني والسياسي في فكر الحركات الإسلامية) وأخيرا كتابنا (التصوف في سياق النهضة) والذي يسعى حلمي من خلاله للكشف عن قيمة وأهمية منحى هام من الروافد التي تجاذبت رواد مشروع النهضة العربية وهو (التصوف الإسلامي) .
في مؤلفه يكشف حلمي عن عدد من الأسباب المهمة التي دفعت رواد النهضة إلى إيلاء عناية خاصة بالتصوف كوعاء روحي لمشاعل النهضة التي أرداوا لها أن تضاء، من بينها ما ناله أغلب رواد النهضة من تربية روحية إبان نشاتهم الأولى، وهو ما ساق له حلمي العديد من المقتطفات كشواهد وبراهين عن دور التصوف كمكون روحي أساسي لشخوص العديد من رواد النهضة.
أما السبب الثاني فهو إيمان هؤلاء الرواد بأهمية هذا المنحى الروحي العميق في عملية النهوض الإسلامي، وثالثا فهو تفنيد ما وقر في أذهان الكثيرين من أن التصوف ما هو إلا لون من ألوان الهذيان والخرافة الدينية ليس إلا، بالإضافة إلى إثبات دور هؤلاء الرواد في تنقيه وتطهير التصوف الإسلامي مما لحق ببنيته من أمور مذمومات، والكشف عن دور التصوف وفاعليته في نشر الإسلام في ربوع أفريقيا ومد الروابط والثغور الإسلامية بعناصر المقاومة والمجاهدين إبان حقبة الاستعمار، أما الدافع الأخير من دوافع رواد النهضة للاهتمام بالتصوف – فيما رأى حلمي- فهو محاولات المستشرقين المستميتة في رد أصول التصوف الإسلامي إلى بيئات غريبة عن الثقافة الإسلامية، وهو ما عمل رواد النهضة على تفنيده ودحضه.
يتضمن الكتاب خمسة فصول تعالج قضية اهتمام ودور رواد النهضة بالتصوف. على طريقة المتصوفة ينسج حلمي سلسلة من النهضويين الذين ربط فيما بينهم علاقات المعلم والتلميذ أو المريد والشيخ، والذين اهتموا بالتصوف، واثبتوا منه موقفا إن سلبا أو ايجابا. يبدأ حلمي بالتجربة الصوفية للأستاذ الإمام محمد عبده، حيث يصدر مبحثه بعباره للأستاذ الإمام ربما تكون شافية من حيث قدرتها على كشف هذا الجانب من حياته ومكونات شخصيته المعرفية والحياتية على نحو سواء، إذ يقول الإمام ( كل ما أنا فيه من نعمة في ديني، أحمد الله تعالى عليها، فسببها التصوف).
ويعرض حلمي للعديد من الأراء التي توضح تأثير اتصال الشيخ محمد عبده بجمال الدين الأفغاني الذين كان له الفضل في خروجه من عزلة روحية كانت قد ذهبت به إلى مدى بعيد، غير انه يمعن النظر والبحث والتحقيق ليصل إلى نتيجة أخرى مفادها أن التأثير الحقيقي في خروج محمد عبده من حالة الدروشة المبكرة في مقتبل شبابه إلى حظيرة العلم والمعرفة كان للشيخ درويش خضر الذي تعلم على يده الطريق في بدو شأنه.
وعلى الرغم من وجود عشرات الدراسات التي تناولت شخصية الإمام شرقا وغربا فإن أهمية هذه الدراسة تنبع من أن أغلب هذه الدراسات السابقة تجاهلت هذا المكون من مكونات شخصيته إما سهوا أو بتأثير من سطوة الشيخ محمد رشيد رضا تلميذه الذي أعاد إنتاج شخصيته بعد وفاته لتبرز شخصية الأستاذ الإمام محمد عبده أقرب إلى السلفية الوهابية.
الشيخ محمد رشيد رضا
وربما كان ذلك هو ما دفع حلمي للتعرض لموقف صاحب تفسير المنار من التصوف الإسلامي، ففي البداية يبين الباحث كيف رٌبي رشيد رضا تربية صوفيه حين التحاقه بالمدرسة الرشيدية في بلاد الشام، ثم على أيدي الشيخ حسين الجسر، لكن الرجل بعد تعرفه على الشيخ محمد عبده بات جزءا من مشروع حضاري يقف في وجه الخرافة والتقليد والجمود أيا كان موضعهم، إن في المذاهب الفقهية أو التصوف، وكان هذا منطلقه في نقده لاحقا للصوفية، لكن هذا الموقف لم يلبث أن انتقل الى حالة من الغلو مع تبنيه نهج الوهابية وتصديه للدفاع عنها، ما انعكس في افساحه صفحات المنار للعديد من المقالات في نقد التصوف فكرا وممارسة، من زيارة الأضرحة وإقامة الموالد إلى ما يدعيه المتصوفة للصالحين من قطبية وكرامات.
ويفرد الباب الثالث من الكتاب المجال لاستعراض المنحى الصوفي عند الدكتور محمد مصطفى حلمي وهو أحد تلامذة الشيخ مصطفى عبدالرازق، وأحد أهم الباحثين المعاصرين في علوم التصوف، والذي أثرى المكتبة العربية والإسلامية بالعديد من المؤلفات حول التصوف ورموزه وعلومه، من بينها (ابن الفارض والحب الإلهي)، (الحب الإلهي في التصوف الإسلامي)، (الحياة الروحية في الإسلام)، (كنوز ورموز) وغيرها العديد من الأعمال.
لم يغفل حلمي ذلك الموقف السلبي لأحد أهم المفكرين العرب المعاصرين، وهو الدكتور زكي نجيب محمود عميد المناطقة الوضعيين العرب، وصاحب (خرافة الميتافيزيقا)، و (نحو فلسفة علمية) الذي لم يتخذ موقفا سلبيا من التصوف وحسب وإنما من الميتافيزيقا الدينية على وجه العموم، معتبرا أنها أحد أسباب تغييب العقل العربي والإسلامي وصرفه عن الواقع ومشكلاته. هنا يستعرض حلمي مسار التكوين الفكري والفلسفي لفيلسوفنا زكي نجيب محمود – في قراءة كل من إمام عبدالفتاح إمام، وحسن حنفي – لكنه يتجاوز القراءتين ليوضح أن المرحلة الأولى في مسار التكوين لزكي نجيب محمود هي مرحلة التدين الصوفي الخالص، وهي نفسها السمة التي سينهي بها حياته، وهي تجربة لم تفارقه طوال مسار حياته وإن توارت في بعض مراحله أو بقيت في كمونْ.
الدكتور زكي نجيب محمود
أما الباب الخامس والأخير فيأتي تحت عنوان ( مركزية التربية الروحية وفاعليتها في فكر بديع الزمان سعيدالنورسي)، يستعرض حلمي التجربة الروحية الإيجابية لأحد أهم ركائز النهضة التركية المعاصرة من خلال رسائل النور، ودعوات النورسي إلى العمل الإيجابي الذي يقاس بمعيار تحقيق النفع والفائدة العامة، وأن ننظر إلى ألطاف وآثار الرحمة الإلهية، لتكون أساسا للتعاطي والتعامل بين البشر.
حاول حلمي خلال أبواب الكتاب الذي يقع في نحو (176) صفحة من القطع المتوسط، استكشاف موقع التصوف فيما يسمى عصر النهضة، وبين كيف كان التصوف مركزيا في مدرسة الإمام محمد عبده على تفرعاتها المختلفة، وهو ما بدا واضحا في مؤلفات الإمام وتلميذه الشيخ مصطفى عبدالرازق ومتواصلا مع تلميذه الثاني الدكتور محمد مصطفى حلمي، ثم مع أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، وأحمد محمود صبحي، وعلي سامي النشار، وعبدالرحمن بدوي، على الرغم من وجود اتجاه آخر مواز اتسم موقفه بالسلية متمثلا في زكي نجيب محمود، وعمر فروخ، وعبدالمتعال الصعيدي.