في رواية “خالتي صفية والدير” للأستاذ بهاء طاهر، وكذلك في روايته “الحب في المنفى” اتخذ طريقة للسرد تتفق مع تلك الغاية التي أرادها من كلتا الروايتين، وهي قيامه بدور الراوي، المُشاهد للأحداث والمُشارك في الكثير منها، ولذلك فهو يستحق ذلك المكان المركزي في كلا العملين.
غير أنه في “واحة الغروب” اتخذ منهجا صائبا وصحيحا بنسبة %، فهو ليس مُعاصرا للأحداث ولا مُشاركا في وقائعها، فقد جرت أحداثها في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، وفي واقع ثقافي وسياسي وحضاري وانساني يختلف عن تلك السنوات التي شغلتها روايته “خالتي صفية والدير” حيث وقعت الأحداث مع مطلع عقد الخمسينيات من القرن الماضي، وامتدت إلى مطلع عقد السبعينيات من القرن ذاته بالقليل من السنوات، وهو الأمر نفسه في روايته “الحب في المنفى” حيث بدت الرواية تجسيدا لنهاية عقد السبعينيات وأحداثه السياسية العاصفة، وامتدت إلى العقد التالي حيث كان الغزو الإسرائيلي للبنان الشقيق واحتلال عاصمته، وارتكاب مذبحة “صابرا وشاتيلا” في قلب بيروت أبرز عناوين ذلك الزمن الجريح!
في الرواية الأولى “خالتي صفية والدير” كان الراوي، في سن الصبا وانتهت الوقائع مع وصوله إلى سنوات الشباب ودخول الجامعة، في حين كان الراوي في رواية “الحب في المنفى” في كامل سنوات الرجولة والنضج والوعي.
في “واحة الغروب” لم يكن حاضرا عَلى أي صورة، فهو أقرب إلى المُشاهد أو للدقة، شأنه شأن القارئ!
ولكنه صاغ الوقائع بحرفية عالية، واقتدار وتمكّن وإحاطة كاملة، ولذلك فهو أقرب إلى المؤرخ، بل هو “مؤرخ” بامتياز.
ولكي ينجح في إنجاز تلك المهمة العسيرة، وبهذه الدقة والإلمام الرائع بكل الوقائع، فقد تَرك لأبطال الرواية الحديث بأنفسهم عمّا جرى دون تدخل وسيط بينهم وبين القارئ!
وهكذا ترك للصاغ “محمود عبدالغفار” الحديث عن نفسه، منذ كان شابا ينعم بثراء أبيه خلال سنوات الصبا والشباب، وحتى تغيّر الحال بوقوع الأب في شباك عملية نصب لتاجر أجنبي أدت لإفلاسه، ثم موته!
ومن هنا نعرف تلك الظروف التي بمقتضاها دخل “محمود عبدالغفار” مدرسة البوليس “ليصبح بعد فترة من التعليم ضابطا عاملا في نظارة الداخلية، ثم يجد نفسه مُستمعا لجمال الدين الأفغاني، ذلك الشيخ الذي جاء من بلاد بعيدة ينثر الثورة بيمينه، والسعوط بيساره، عَلى قهوة “متاتيا” في قلب ميدان العتبة الخضراء.
في ذلك الزمن وقف أحمد عرابي باشا ليعلن ثورته، ثم تتطور الأحداث والوقائع فيجد الصاغ “محمود عبد الغفّار” نفسه مُدافِعا عن مدينة الإسكندرية وشعبها، في مواجهة الغزو البريطاني، ويصاب بطلقة رصاص في ذراعه؛ كادت تقتله خلال مذبحة ١١ يوليو ١٨٨٢، التي ذُبح خلالها الألاف من سكان المدينة التي تحولت بوحشية المُحتل الى أنقاض.
عند هذا الحد، وبعد تمكن الاحتلال من إحكام قبضته عَلى روح مصر، وخضوع الخديوي توفيق لمشيئتهم التي لا تُرد، أُحتسب الصاغ “محمود عبدالغفار” ممن أيدوا الثورة، وناصر ما أسماه الاحتلال “العُصاة” من العُرابيين!
ولأنه أمام القومسيون العسكري أي لجان التحقيق المُشكلة من ضباط الاحتلال، اعترف بأنه مُذنب، فقد أُبْقِيَ عليه في نظارة الداخلية، غير أنه ظل موضعا لشك قادته من المصريين، ومن قادتهم من ضباط الاحتلال!
ومن هنا، بدا لقاؤه بمستر هارڤي مستشار نظارة الداخلية وصاحب القرار النهائي فيها – نقطة تحول في حياته، كرجل عسكري وكإنسان.
فقد أبلغه قرارا بترقيته ليكون مأمورا لواحة سيوة، مُكلفا إياه بمهمتين لا ثالث لهما، أن يجمع الضرائب السنوية من أهل الواحة بكل قوة، وبدون رحمة!
أما المهمة الثانية، فهي ترك الحرب القبلية المُستعِرة بين شقي قبيلة الأجواد من الشرقيين والغربيين عَلى حالها دون تدخل منه قائلا له:
“هذه المعارك لا شأن لنا بها، هذه المعارك جزء من حياتهم، وهم أحرار فيما يفعلونه بأنفسهم، إلا بالطبع أن أمكن عن طريق تحالفات معينة مع عشيرة أو أخرى – تحويل ذلك إلى وسيلة لضمان السيطرة، هذه مسألة مُجربة ومضمونة، بشرط ألا يستمر التحالف مع طرف واحد لمدة طويلة، يجب أن يكون التحالف مع هؤلاء مَرَة ومع خصومهم في المرة الثانية، هل تفهم؟”.
يقول الصاغ “محمود” ردا عَلى سؤال ذلك الماكر الداهية: “أحاول يا سعادة المستر، أعرف هذه السياسة، ولكن لم يسبق لي أن جربتها”.
هي سياسة “فَرّقْ تسُدْ” البريطانية التي جربتها ونجحت في كل مستعمراتها التي لم تكن تغيب عنها الشمس!
خَرَج الضابط “محمود عبدالغفار” وهو يعرف أن الموت سوف يلاحقه.. ربما تقتله العواصف خلال خوضه بحر الرمال، وهو في طريقه الى الواحة، وربما يلقى حتفه عَلى يد البدو الذين يقطعون الصحراء عَلى قافلة ألقت بها المقادير في هذا التيه.
وربما يلفظ أنفاسه وهو في مكتبه، مكتب المأمور، وفي داخل الواحة، عند مطالبة أهلها بدفع الضرائب السنوية الجائرة.
ألف سبب وسبب يودي به إلى الموت.
يعرف أن النهاية قادمة لا محالة.
بهاء طاهر، يترك الضابط “محمود عبدالغفار” يتحدث عن حاله، ويسمع خلجات نفسه ومُناجاته لروحه الضائعة كما نسمعه نحن معشر القُراء: “لستُ مسافرا الآن من أجل زوجتي كاثرين عَلى أي حال، ولا من أجل الترقية التي ظل هارڤي يلٍح على تذكيري بها، ربما لولا عار المُحاكمة العسكرية التي ألمح اليها الأميرلاي سعيد قائدي المُباشر والمُتعاطف مع العُرابيين ما ذهبت، ولولا أني لا أعرف لنفسي مهنة أخرى لرفضت الترقية والسفر معا.
كفى!
فليحدث ما يحدث، أذكر من أيام المدرسة بيتا قديما من الشعر:
“وأعلم علم اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عَمِى”.
تمنيت لو كان الأمر هو العكس، لو أجهل ما حدث بالأمس وأعلم ما في الغد…”.
لم يجد “محمود عبدالغفار” من الشعر سوى تلك الأبيات من مُعلقة “زهير ابن أبي سُلمىْ” شاعر العصر الجاهلي الأشهر، ليجسد بها أزمته، وأزمة وطنه، وأزمة زمانه!