رؤى

مجتمع الـ “NEET” والقفز إلى المجهول

تستعمل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD في تقاريرها مصطلح الـ “NEET”، ويشير إلى شريحة من الشباب ممن يقعون في الفئة العمرية ما بين 15 إلى 29 سنة. وتضم هذه الشريحة من ليسوا مسجلين في أي مرحلة من مراحل التعليم أو يزاولون عملا أو يبحثون عن عمل، أو يشاركون في أي برنامج للتدريب Not in Education, Employment, or Training (NEET).

وبالعامية الصرفة، فإن هذه الشريحة تمثل “الناس الرايقة” “الفاضية ع الآخر”. فهم لا يتعلمون ولا يعملون ولا يبحثون عن عمل ولا يتدربون. يعيشون حالة فراغ في فراغ. “من البيت للقهوة ومن القهوة للبيت”، هذا إن صفيت حركتهم على البيت والمقهى فقط. وهذه الفئة خطيرة –بلا أدنى شك– ليس فقط على نفسها وإنما على المجتمع الذي تعيش فيه. إذ تمثل بسبب ما تعيشه من فراغ تهديدا محتملا للأمن، وتخالف –نظرا لكسلها– كل ما هو مألوف بالفطرة والبديهة، وتشكل نتيجةً ليأسها مادة خام للجريمة، وتمثل –بدفع من تزايد أعدادها– ملمحا بائسا للتشوه الاجتماعي، وتشيع بتصرفاتها حالة من “سدة النفس” بين الشباب صغار السن. باختصار هي شريحة تدق ناقوس الخطر بسبب ما يصاحب وجودها من تداعيات أمنية وإنسانية واقتصادية واجتماعية مزعجة. وقد وصلت نسبة هذه الشريحة في بعض بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى حد مقلق. ومع ذلك فإن من يراجع تلك النسب سيجدها معقولة.. قياسا إلى نسبتها في بلدان من غير الأعضاء في تلك المنظمة.

أما في الدول الأعضاء في تلك المنظمة، والتي تأسست في 1961، وتضم 38 بلدا ممن يتبنون اقتصاد السوق، ويلتزمون بالحكم الديمقراطي – فتشير النسب إلى ما يشكك في وعود الديمقراطية واقتصاد السوق باستنهاض الطاقات بالذات طاقات صغار السن. فالبلدان الثلاثة الأعلى في نسبة الـ“NEET” هي إيطاليا (23.5%) ثم المكسيك (22.1%) يليها كوريا الجنوبية (20.9%). لكن النسبة ليست بقليلة في بلدان أخرى مثل إسبانيا (18.5%) وفرنسا (15%) والولايات المتحدة الأمريكية (13.4%) وبريطانيا (12.4%).

 ووفق دراسة للبنك الدولي حول تلك الشريحة ما بين عامي 1976 و2021، تبين الأرقام فداحة تلك المشكلة حول العالم في بعض السنوات. وما يهم من تلك البيانات ما يتصل بمنطقتنا ومنها على سبيل المثال لا الحصر تبرز حالات السعودية وتركيا ومصر والأردن في سنة 2020، حيث بلغ حجم مجتمع الـ“NEET” فيها (22.3%)، و (28.3%)، و (30.2%)، و (35.4%) على التوالي.. فيما بلغت النسبة في العراق لعام 2012، (40.6%) وفي الصومال لعام 2019، (43.7%).

ولن يصعب على المرء تخيُّل فداحة مشكلة الـ“NEET” في أي بلد، بالذات في البلدان المضطربة والهشة وغير المستقرة المثقلة بالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية. فهناك ملايين الشباب صغير السن الذين يعيشون بلا عمل ولا تعليم ولا أمل ولا تدريب ولا نصح ولا توجيه. أمواج بشرية هائمة تعيش عالة على ذويها وربما على بعض برامج الرعاية الاجتماعية، هذا إن وجدت أو كفيت. جموع تضيق بحياتها، وتسكنها حالة مزمنة من الاغتراب وفقدان الثقة بالأشياء والأشخاص معا، وبمنظومة الحياة بأكملها. إنها قوة شر رابضة داخل الأوطان تتحين أي فرصة للاحتيال أو السرقة طالما لا تجد سبيلا للعمل والمشاركة في الإنتاج؛ وقد تلتحق بعالم الجريمة المنظمة، وقد تهاجر إن استطاعت أو تفر هربا على قارب؛ إما لحياة مكتوبة لها أو موت مكتوب عليها. لكنها في معظم الأحوال تبقى قوة عضلية ونفسية وذهنية جبارة؛ لكنها معطلة ومغيبة وصامتة ومعذبة ومقلقة تختبئ باستمرار في بيوتها أو في كهوف وسائل التواصل الاجتماعي الضيقة التي صنعتها لتتعيش ببلادة على كسب أب متعب أو كاهل أم مثقلة.

صحيح أن الـ“NEET” مشكلة قائمة، لكنها أيضا قادمة بقوة وتحديات أكبر بسبب تزايد أعداد أفرادها حول العالم. ومنطقتنا عندما يأتي ذكر المؤشرات العالمية المقلقة دائما ما يكون نصيبها منها بكل أسف وفير! ففرص العمل لا تزداد بنفس معدلات زيادة السكان أو بما يوازي عدد خريجي المدارس والجامعات. والتكنولوجيا تضيف كل عام أرقاما جديدة إلى جيوش العاطلين عن العمل. والانكماش والركود والتباطؤ الاقتصادي يدفع بمزيد من صغار السن إلى عالم الـ “NEET” المرعب. والأغرب من كل ذلك، فكر تلك الفئة العمرية التي يرى كثير من عناصرها –بسبب قلة فرص العمل وتدني الدخول وتراجع مستوى التعليم وتدني احترام المجتمع للعلم– أن الفارق بين العامل والعاطل ليس مهما وأن من يجتهد لم يعد حظه في الحياة يختلف عن حظ من يتكاسل، وأن المسافة بين المتعلم والأمي لم تعد كبيرة. ولا يختلف عاقل على أنها أفكار منحرفة لكنها مع ذلك تتفشى بلا مواربة؛ معبرةً عن الإحساس بالعدمية ونقص الإيمان بالذات والشعور بقلة القيمة، والنفور من المجتمع، وغياب البحث عن حافز.

الـ”NEET” مشكلة مقلقة تعرفها كل دولة تقريبا داخل حدودها. لكنها باتت تشكل بفعل تشابك النظام الاقتصادي العالمي، تحديا جسيما عابرا للحدود. ففي كل يوم وفي كل بلد تنضم أعداد جديدة إلى مجتمع البطالة والعطالة وإلى المنسحبين من التعليم والممتنعين عن تلقي أي تدريب مهني أو وظيفي. إنه مجتمع يضم شرائح شبابية واسعة حول العالم في سن حرج للغاية. فئات مغتربة عن نفسها وعن أوطانها وعالمها. تتسكع ليل نهار، وتقضي وقتها بلا عمل أو دراسة أو تدريب. كتلة إنسانية ضخمة لا تقوم بشيء وإنما تعيش عالة على من حولها. تقضي وقتها تقريبا بالكامل في نشر التفاهة لتضر بالناس، ولتضر كثيرا بنفسها مضيفةً بسرعة مذهلة إلى حالة الارتباك الإنساني والفشل الممل التي لم تعد تخفى في كوكبنا المليء بالمخاطر والمشاكل والعبر.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock