رغم المكانة الكبيرة التي يحظى بها رفاعة رافع الطهطاوي (1801- 1873) بوصفه رائدا في العديد من المجالات الأدبية واشتباكه مع قضايا مثل قضايا المرأة والتعليم والدستور وغيرها من المجالات المهمة بوصفه المؤسس وواضع اللبنات الأولى في الثقافة المصرية والعربية في التاريخ المعاصر؛ إلا أن هناك العديد من المعلومات المغلوطة عن حياته وآثاره الأدبية التي لم تدرس ولم تكتشف حتى الآن، ما جعله مادة خصبة للبحث وإعادة اكتشاف الكثير من الجوانب؛ خاصة وأن المعلومات التي نقلت عنه لم تكن دقيقة بالقدر الكافي. ذلك الأمر الذي تصدى له عدد من الباحثين منهم الدكتور عبدالرحمن الشرقاوي مدرس الأدب المقارن في جامعة القاهرة والأستاذ المساعد في كلية الدراسات العليا للإنسانيات في جامعة أوساكا باليابان – الذي فنّد في بحث له بالوثائق والأدلة القاطعة مجموعة من الأكاذيب حول الرجل.. لعل أشهرها أنه أرسل إماما للبعثة، وليس طالبًا بينما الحقيقة هي أنه أرسل منذ البداية طالبا مبتعثا من دولة محمد علي لدراسة الترجمة، ليعمل بهذه المهنة لا غير.
أثر مجهول
وأيضًا هناك ما قام الدكتور سيد علي إسماعيل الأستاذ بكلية الآداب جامعة حلوان بنشره لأثر أدبي مجهول للشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، وهي ترجمته مسرحية «هيلانة الجميلة» عام 1868، لتكون بذلك أول مسرحية عربية مترجمة ومنشورة. حيث إنها تُرجمت من الأصل الفرنسي إلى العربية بعد أربعة سنوات من كتابتها عام 1864، لكل من هنري ميلهاك ولدوفك هاليفري. وقدمت على التياترو الفرنسي باللغة الفرنسية في القاهرة شهر يناير 1869، احتفالا بعيد جلوس الخديوي إسماعيل على عرش مصر في الأزبكية بالعتبة، ذلك المسرح الذي تحول فيما بعد إلى مصلحة البريد الحالية التي تقابل المسرح القومي حاليا في ميدان العتبة.
ويعود الفضل في العثور على هذه المسرحية، إلى إحدى طالبات سيد علي إسماعيل في جامعة حلوان، تدعى أماني جمال إبراهيم إذ تمكنت من العثور على هذه النسخة المفقودة، من أثر الإمام التي ترجمها بناء على طلب من الخديوي نفسه، وطبعت في مكتبة بولاق في أكثر من ألف نسخة، وزعت على الحضور لتكون بذلك أول ترجمة عربية لنص مسرحي.
ولم يقدم سيد علي إسماعيل دراسة خاصة تتعلق بالمسرحية ذاتها، وإنما دراسة مهمة لسياقها التاريخي، هو عبارة عن بحث له كان قد شارك به 2015، في إحدى الندوات قبل أن يكتشف هذه المسرحية، بعنوان “توثيق المسرح في الصحافة العامة: البداية في مصر” مشيرا إلى أن هذا البحث أفضل تقديم يصاحب نص المسرحية المكتشفة.
وتُعد هذه المسرحية بصورتها التي نشرت عليها للمرة الثانية بعد نشرها الأول عام 1868، وثيقة مهمة تكشف عن العديد من الخصائص في ترجمة المسرح إلى العربية وكيف تأثّر المترجمون بأسلوب رفاعة في الترجمة من بعده. كما أن معجمها اللغوي وأسلوب ترجمتها، وحتى الشكل الذي نشرت عليه يفضي إلى الكثير من الدلالات المهمة في التعامل مع النصوص المسرحية، فهذه الترجمة بحاجة إلى تحقيق ومقارنة مع نصها الأصلي لرصد الكثير من تدخلات رفاعة رافع الطهطاوي على النص الأصلي وطريقة فهمه له في هذا العصر، أي منذ أكثر من 150 سنة.
لغة العامة
وتكشف لغة المسرحية عن السياق الزمني الذي كتبت فيه، حيث اللغة العربية ما زالت لم تُمتلك أدواتها بصورة كبيرة وفي طور التشكل بعد عصور الظلام التي مرت بها الدول العربية تحت حكم المماليك ومن ثم العثمانيين في مصر، فجاءت لغتها قريبة من كتب هذا العصر، شبيهة بلغة الحكايات الشعبية التي تخلط بين العامية والفصحى أو تفصيح العامية. وهذا الأسلوب هو الذي انتهجه رفاعة رافع الطهطاوي في كثير من كتاباته بل إنه أول من دعا إلى اسـتـعـمـال العامية وتدوين قواعد لها في كتابه الذي أصدره عام 1868، “أنوارُ توفيق الجليل من أخبار توثيق بني إسماعيل”: إنَّ الـلـغـة المـتـداوَلة المُسمَّاة باللغة الدارجة التي يقع بها التفاهمُ في المعاملات الـسـائــرة لا مانع أن يكون لها قواعد قريبة المأخذ وتصنف بها كتب المنافع العمومية، والمصالح البلدية وهذا الكتاب نشر في العام ذاته الذي نشرت فيه هذه المسرحية.
وتبع الطهطاوي هذا النهج في ترجمته لمسرحية هيلانة التي جاءت خليطًا من العامية والفصحى أو العامية المفصحة، فنجد عبارات مثل «ياما الهوى شحطط ناس» هو تعبير عامي شعبي يراد به التدليل على تأثير الحب في إذلال المحبين. ويصف الملكة هيلانة بأنها «عايقة وبرجاسة» وهما كلمتان عاميتان مغرقتان في المحلية والشعبية، ومعناها متشابه ويعني المرأة اللعوب، فالعايقة في العامية تطلق على المرأة التي تبالغ في ارتداء ملابس غير محتشمة لا تتناسب مع عمرها أو المرأة اللعوب أي كان عمرها، أما كلمة برجاسة فقد حفظ لنا معناها المستشرق الهولندي رينهارت بيتر آن دُوزِي (1820: 1883) الذي توفي الإسكندرية في كتابه «تكملة المعاجم العربية» الذي ترجمة محمَّد سَليم النعَيمي وجمال الخياط والذي يوضح في معجمه أن برجاسة تعني: امرأة ذات ريبة. وهو ما ينطبق على شخصية هيلانة داخل المسرحية، وهذه الكلمة لم تعد مستخدمة الآن.
كما أنه يستخدم عبارات مثل «حضرة فلان، وستي فلانة» لنداء التوقير قبل أسماء الأشخاص تلك الصيغ التي كانت مستخدمة في القرنين التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ويكثر ذكرها في الصحافة في هذين القرنين التي كان الطهطاوي من روادها، وذكر الشئون الملكية بصيغة “الدول السنية” داخل المسرحية كما هو شائع في مصر في هذه الفترة. ويترجم كلمة الحرس بالمماليك أو الغفر، وهناك جمل عامية صرفة أو فصحى تحولت إلى العامية بسبب كثرة استخدامها على لسان العوام مثل “الطاق اثنين أي ضاعف الأمر، على العين والراس للتعبير عن التقدير الكبير، وغفلنا أي استغل جهلنا، فضلوا في المكان أي ظلوا فيه، يبوس أي يقبل، أوده بمعنى غرفة، الزعل بمعنى الحزن والحنق والغضب، فرايحي بمعنى يحب الفرح والبهجة…إلخ”.
ومن النماذج على هذه اللغة في الحوار المسرحي المستخدم في الترجمة: “فقالت باخيس: فإذن تعالى معي./ فقال كلكاس: لا خليني هنا/ فقالت باخيس: كيف أخليك كذا في أودة الملكة/ فقال كلكاس: أنا قاعد لأجل التخفير عليها./ فقالت باخيس: الملكة ليست محتاجة إليك تخفر عليها لأنه موجود عندها ما يكفي من الخفر”.
كما أنه يستخدم بعد الكلمات الأجنبية التي جرى استخدامها في العامية المصرية مثل كلمة “الفاميلية” بمعنى العائلة عن أصلها الإنجليزي.
التنسيق
أما عن ترجمة أسماء أبطال المسرحية القادمين بالأساس من الأساطير اليونانية – فهناك اختلاف في شكلها عما استقرت عليه الآن فآخيل في المسرحية هو آشيل، وهيركليز هو هركول مدينة طروادة هي ترواه. وصيغت ترجمت المسرحية في شكل “قال فلان، وأجابه فلان أو قال:… وقالت”…” أما عن الشكل فإنه المسرحية قسمها إلى ثلاثة فصول يطلق على الفصل اسم اللعبة الأولى…، أما المشاهد داخل الفصل فيطلق عليها لفظ المعلب الأول المعلب الثاني…إلخ ولا يوجد فصل بين الفصول الثلاثة ولا حتى المشاهد المتكون منها الفصل الواحد.
ويجعل من جمل مثل قال وقالت أو وصف المشهد في منتصف الصفحة فيما يكون القول بداية من السطر. ويلاحظ في الكتاب في صورته القديمة تداخل الكلمات ببعضها البعض دون فاصل بين كلمة وأخرى مع شيوع أخطاء إملائية خاصة في التفريق همزة القطع والوصل والتاء المربوطة وحرف الهاء. بالإضافة إلى التسهيل في الهمزة المتوسطة فكلمة بئر تكتب بير وشأن تكتب شان. هذا الشكل الطباعي الذي استمر في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى أن تغير شكل كتابة النصوص المسرحية على الشكل المتعارف عليه الآن.
الزجل
واعتمد الطهطاوي على عدة صور في ترجمة الأبيات الشعرية من الفرنسية فتارة يترجمها بالفصحى القريبة من العامية موزونة بالعروض العربي، وتارة يترجمها نثرًا بصورة سردية وشاع ذلك النمط في الفصل الثالث من المسرحية فيقول على سبيل المثال “فقالت هيلانة جوابها بأشعار يدل معناها على أنها لما رأت باريس وجدته جميلا وأحبته، وأنها مع ذلك منعت نفسها…”، أما الصورة الثالثة وأهمها وهي ترجمة هذا الشعر بصورة زجلية كما هو في الفصل الثاني من المسرحية التي يرد فيها الحوار على لسان الشخصيات زجلا. فيقول على لسان هيلانة «على الزوج واجب* يبني عيلة/ إن كان غايب* باليوم والليلة/ عن الأوطان* أينما كان/ يعمل بذوقه* تبقى مراته/ إن هفه شوقه* تحلف بحياته/ إلى الأظعان* وهو فرحان». ذلك الأسلوب الذي سيتوسع فيه تلميذ رفاعة رافع الطهطاوي الشاعر محمد عثمان جلال الذي قام بترجمة مسرحيات موليير وراسين كاملة بالزجل المصري، ففي 1889، قدّم محمد عثمان جلال أربع مسرحيات فرنسية لـموليير، ومَصّرها شعرًا، وضمها في كتاب واحد وأسماها «الأربع روايات من نخب التياترات». وهي «الشيخ متلوف، والنساء العالمات، ومدرسة الأزواج، ومدرسة النساء» وبعد ذلك ضم هزلية أخرى قصيرة لـموليير، بعنوان «الثقلاء» عام 1896، وترجم ثلاث مآسٍ شعرية لـراسين في كتاب بعنوان «الروايات المفيدة في علم التراجيدة» وهي إستر، وأفغانية وإسكندر الأكبر»، في عام 1904، خرجت أول مسرحية مصرية عامية غير مترجمة، أو مُمَصّرة لـمحمد عثمان جلال، وكانت المسرحية بعنوان رواية «المخدمين» وتدور حول حيل المخدمين، نشرت بعد وفاته التي كانت عام 1898، وبذلك كان هو رائد المسرح الشعري العامي ذلك الاتجاه الذي استقاه من منهج أستاذه رفاعة رافع الطهطاوي في ترجمته لمسرحية هيلانة الجميلة.
الميثولوجيا اليونانية
ولا تبتعد طبيعة المسرحية عن الميثولوجيا اليونانية، حيث تدور أحداثها حول اختطاف باريس لهيلانة. وتسير المسرحية على خطى المسرح الإغريقي، حيث القدر الذي له كلمته والإنسان الذي يحاول أن يقف في وجه هذا القدر، ما يتسبب في غضب الآلهة، فترسل لعناتها على جميع أهل اليونان، حتى ينفذوا ما تريد، وذهاب الناس ضارعين متوسلين إلى الملك كي ينقذهم من هذه اللعنة التي تمثلت في ترك الزوجات لأزواجهن بسبب رفض الملك إسبرطة مينيلاس – طاعة الزهرة في ترك زوجته هيلانة، ليتزوجها الفتى الوسيم باريس بن الملك بريام ملك طروادة كما وعدته.
«فقال مينيلاس: ومما أخلص مملكتي
فقال كلكاس: تخلصها من الوباء العظيم الذي أرسلته الزهرة ونشرت لكافة بلاد اليونان.
فقال أعاممنون: أعلم أن الزهرة قد نشرت في الجو رياحا وبائية، يترتب على استنشاقها أن كل الأزواج يتركون نساءهم والنساء يتركن أزواجهن.
فقال كلكاس: إن هذا الوباء لم يهلك به جميع الناس، بل إن جميعهم قد أصيبوا به، وهذا ناشئ من غضب الزهرة، حيت إنها تريد الانتقام من بلاد اليونان».
فالمسرحية في خطوطها العريضة تسير وفق مسرحية الملك أوديب لسوفلكيس، حيث الشخص الغريب الذي يحل اللغز فيحظى بمكانة كبيرة في هذه المدينة، ثم غضب الآلهة بسبب الوباء وتضرع الناس للملك أن يرفع عنهم الوباء غير أن النص المسرحي الجديد يضيف فكرة أخرى انتشرت بشدة من بعد ديكارت حول الهوية الذاتية، وتجعل هناك صراعًا ما بين الفرد والمجتمع وهل على الفرد أن يضحى من أجل مجتمعه لرفع الوباء، أما يحافظ على حقوقه في عدم ترك زوجته لشخص آخر، وأن يفدي العالم بنفسه؛ إلا أن مينيلاس يرفض هذه التضحية ويقرر عدم التخلي عن زوجته.
«فقال كلكاس وأغاممنون هذه الأشعار التي معناها: ينبغي لك أن تفدي بنفسك منع مضرة العالم، ولو يحصل لك الألم من ذلك وبفدائك هذا تُخلّص من يخلفونك في هذه البلاد.
فقال مينيلاس: مالي والعالم أفديهم بنفسي أن لا أتحمل هذه المصيبة، دع من يأتي من بعدي يفديهم بنفسه…».
وهذه الفكرة موجودة أيضا في المسرح الإغريقي، غير أنها تعمقت أكثر في عصر النهضة. وبهذا الخطاب يعلن الملك رفضه أن يضحي بحقه كفرد وتنتهي المسرحية عند هذا الجزء باستعداد مينيلاس، لاتباع باريس ليستخلص زوجته منه ويحاصر مدينة طروادة.