رؤى

الأزهر الشريف.. تاريخ من الوقوف في وجه الطغاة

احتل الازهر الشريف مكانة عظيمة في قلوب المسلمين في شتى بقاع العالم، وذلك لدوره الكبير في نشر الدعوة الإسلامية؛ وحفظ الدين الإسلامي وتعاليمه.. لذلك ارتبط كثير من أبناء الأمة الإسلامية به؛ خاصة من غير الناطقين بالعربية الذين تعلموا في جامعته ومعاهده، ونهلوا من علم علمائه.. أما المصريون فينظرون للأزهر كمنارة للعلم، ورمز من رموز النضال الوطني عبر العصور.

اعتاد المصريون اللجوء إلى الازهر وعلمائه وأئمته، كلما ألمت بهم الأحداث الكبيرة والملمات الجسام، وقد تباينت المواقف الصادرة عنه، وفق عدد من الاعتبارات أهمها وجود شخصية ذات حيثية وتأثير على رأسه، سلطة الوقت ومدى تحكمها في المؤسسة العريقة، الأحداث ومبلغ قدرتها على الدفع لتغيير الأوضاع القائمة.

يرجح كثير من المؤرخين أن الدور السياسي للأزهر قد بدأ فعليا في عهد شيخه الإمام محمد الحنفي الذي تولى المشيخة عام 1757، وقد بلغ الرجل أعلى مكانة لدى الخاصة والعامة، حتى أن كثيرا من أمور الدولة لم يكن يقطع فيها برأي إلا بعد مشورته وإذنه.. ويذكر أن الخلاف كان قد استحكم بين علي بك الكبير، وبعض كبار المماليك، وأوشك القتال أن يقع بين المتخاصمين؛ فاستدعى الشيخ الحنفي الكبراء من المماليك، وأغلظ لهم القول وعنّفهم أشد تعنيف، واتهمهم بأنهم سيجرون على البلاد الخراب إذا هم استمروا في عنادهم؛ فاخبروه أنهم لا يميلون إلى قتال علي بك؛ لكنهم يخشون أن يشن الحرب عليهم، فأخذ عليهم العهد بعدم إتيان أي فعل من شأنه أن يؤجج الصراع بين الفريقين، ثم كتب رسالة لعلي بك الكبير؛ طالبا منه نبذ الخلاف وقبول الصلح، فنزل على رأيه وانتهت الأزمة وتجنبت البلاد ويلات الحرب الداخلية بفضل مكانة الشيخ الكبرى في نفوس الجميع.

علي بك الكبير
علي بك الكبير

أما الشيخ أحمد بن موسى بن داود أبو الصلاح العروسي فهو الإمام الحادي عشر للجامع الأزهر، تولى المنصب عام1778، وقاد الاحتجاجات الشعبية ضد الوالي العثماني أحمد أغا؛ لما بدر منه من إساءة بالغة بحق أهالي حي الحسينية، ولم تهدأ الأوضاع حتى صدر الفرمان السلطاني بعزل الوالي؛ وكان أول ما بدأ به الوالي الجديد الحضور إلى المشيخة واسترضاء العلماء، وعلى رأسهم الشيخ الجليل الذي عاود بعد ذلك الوقوف ضد الوالي عندما اشتد الغلاء على الناس؛ فضجوا بالشكوى إلى أن توصل الشيخ إلى اتفاق مع الوالي يقضي بوضع تسعيرة جبرية للسلع الأساسية، وردع المخالفين بعقوبات وغرامات كبيرة.

بالنسبة للشيخ الشرقاوي الذي كان على رأس المشيخة معاصرا للحملة الفرنسية على مصر، فقد تباينت الآراء بشأنه، فبينما يراه البعض واحدا ممن استطاع نابليون استمالتهم، وشراءهم لتثبيت دعائم حكم المحتل الفرنسي؛ ويستدلون على ذلك بانضمامه لمجلس شورى العشرة الذي حاول من خلاله نابليون التقرب إلى المصريين- يرى آخرون أن الرجل كان على مستوى الحدث، وحافظ بقدر ما يستطيع على الأزهر ومكانته؛ وكان ممن يوقدون نار الثورة في نفوس المصريين، ولما فطن الفرنسيون لدوره هو ومن معه، قصفوا الأزهر بالمدافع، ودخلوا ساحته بخيولهم كما هو معروف، كما كان الشيخ الشرقاوي أحد من تصدوا لوالي مصر محمد بك الألفي، مطالبين إياه بتخفيض الضرائب الباهظة التي فرضها على المصريين، ولم يجد الوالي بدا من الاستجابة للشيخ ومن معه.. وفي عهد محمد علي تصدى الشيخ للباشا مذكرا إياه بما عاهد عليه من التزام إقامة العدل والرفق بالمصريين، فما كان من الباشا إلا أن عزله، ووضعه قيد الإقامة الجبرية.

الحملة الفرنسية
الحملة الفرنسية

ولم يغب شيوخ الأزهر الكبار عن مشهد الثورة العرابية، بل كانوا حاضرين بقوة في شخص مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عليش الذي أصدر فتواه بعدم صلاحية الخديوي توفيق لولاية الأمر بعد أن باع البلاد للأجانب، وأطاع إشارات قناصل أوروبا، وعندما امتنع شيخ الأزهر – في هذا الوقت- محمد المهدي العباسي عن توقيع الفتوى، نظرا لموالاته لتوفيق، جمع الشيخ عليش كبار علماء الأزهر، وكتبوا ما يفيد وجوب عزل العباسي، وكانت الثورة العرابية في عنفوانها، فتم إبعاده عن المنصب وتعيين الشيخ الإمبابي الذي حالت ظروفه الصحية دون أن يكون له دور كبير في تلك الأحداث.

ومن أكثر المواقف التي واجه فيها شيخ الأزهر السلطة بكل حزم وثبات، موقف الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي عندما أعلن رأيه بأن مصر لا تصلح لأن تكون دارا للخلافة؛ لوقوعها تحت الاحتلال البريطاني، وكان الملك فؤاد قد عزم على إعلان نفسه خليفة للمسلمين، بعد سقوط الخلافة العثمانية، وبفعل فتوى الجيزاوي ذهبت أحلام فؤاد أدراج الرياح، ولم يكتف الشيخ بذلك بل جاهد حتى استصدر قانونا يغل يد الملك في أمر تعيين شيخ الأزهر، إذ جعل مشاركة رئيس الوزراء في القرار حقا أصيلا له.. ولم يجبن الشيخ المقدام عن إعلان رفضه القاطع لإغلاق الجامع الأزهر أثناء ثورة 1919، برغم ما أبدته قوات الاحتلال من نوايا البطش والإرهاب.

طلاب الأزهر ثورة 19
طلاب الأزهر ثورة 19

ومن أنبل المواقف التي لا يجب أن نغفل عنها ما قام به شيخ الأزهر الإمام عبد المجيد سليم من مواقف وطنية عديدة أدت في النهاية إلى عزله، وكان أهمها وقوفه أمام الملك فاروق حين أراد تخفيض المخصصات المالية للأزهر، قائلا عبارته الشهيرة: تقتير هنا وإسراف هناك. معرضا بالملك الذي اشتهر بالمجون وإنفاق الأموال الطائلة في البذخ واللهو.

الشيخ عبد المجيد سليم
الشيخ عبد المجيد سليم

وهناك كثير من المواقف الرائعة لرجال الأزهر في مواجهة السلطة، تؤكد أن الأزهر الشريف كان لعقود طويلة نصيرا للمصريين في كفاحهم المرير ضد السلطة المستبدة على اختلاف أشكالها، وإن بدا في أوقات كثيرة متذيلا حراك المصريين ومطالبهم، إلا أن رجاله ما فتئوا يكشفون عن معدنهم الأصيل وقت الأزمات بشكل ربما يخالف توقعات الكثيرين؛ فالأزهر الشريف هو جزء أصيل من صميم النسيج المصري الذي يمكن أن يأتي بالعجائب وقت أن يفقد معظم الناس الأمل في الخلاص.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock