كتب: ماهر الشيال
مرت الأربعاء الماضي، الذكرى الأولى بعد المئة لميلاد كبير مَعَلْمِي الفنِ المصري، الفنَّان الرَّاحل محمد رضا الذي تحوَّل بفعل الأقدارِ، من العمل في مجال هندسة البترول إلى حقل استخراج الضحكات الصَّافية من القلوبِ، وبثِّ الابتسامة على شِفَاهِ الجماهير، مُنذُ أوائلِ ستينات القرن الماضي من خلالِ أعمالٍ مسرحيةٍ وسينمائيةٍ وتليفزيونيةٍ وإذاعية ما زالتْ خالدةً في الأذهانِ إلى يومِنا هذا.
الفنَّانُ رضا ذو الأصول الصَّعيدية، عاشَ طفولتَه وشبابَه في مدينةِ السويس، وانتقلَ للدراسةِ بالقاهرةِ؛ حتَّى حصلَ على “دبلوما” الهندسة التطبيقية عام 1938، ليعودَ للعملِ مهندسا في شركة “شِل” العالمية.. ورغم الراتبِ الكبيرِ الذي كان يتقاضاه، وزواجه المبكر وإنجابه لابنته أميمة، إلا أنَّ ذلك لم يحلْ دُونَ تمسُّكه بحلمِه، في أن يصبحَ مُمثلًا يلعبُ أدوارَ الـ “جان بريمير” في المسرحِ والسينما.
ربما قاومَ رضا لفترةٍ ذلكَ الشغفَ الطاغيَّ الذي كان يدفعه دفعًا نحوَ الفنِ.. سائرًا به في طريق المجهول؛ ليترك وراءَه حياةً آمنةً مطمئنةً هادئةً هانئةً وادعةً. يقدِّم رضا استقالتَه من شركة البترول؛ لينتقلَ للإقامة مع أسرته الصَّغيرة إلى القاهرة للعمل بالتَّمثيل بعد اشتراكِه في إحدى مسابقاتِ المواهبِ وحصولِه على المركز الثاني.
وكانَ المخرج صلاح أبو سيف ضِمنَ لجنةِ التحكيم؛ وقد أشادَ بأدائِه.. وينتظر رضا أن تفتحَ له أبواب المجد والشهرة لكنَّ أحلامَه تبخرتْ قبلَ أن تُهيِّئ له الأقدارُ لقاءَ الفنانِ توفيق الدِقْن الذي ينصحُه بالدراسِة؛ فيلتحقُ بالمعهدِ العَالي للفنونِ المسرحيةِ؛ لِيُصْدَمَ بالرُّسوبِ في العامِ الأولِ بسببِ تجاوزِ نسبِ الغيابِ المقررةِ.
أيقنَ رضا أنَّ المغامرةَ قدْ انتهتْ فعادَ إلى السويسِ وطلبَ سحبَ الاستقالةِ؛ لكنَّ إدارةِ الشَّركةِ رفضتْ فَقَفِلَ راجعًا إلى القاهرة وقد بلغَ به اليأسُ مبلغًا.
لم يجدْ رضا أمامَه سوى الانتظامِ في الدِّراسة في المعهدِ؛ حتَّى أتمَّ دراستَه والتحقَ بالمسرحِ الحر، وقدَّم عددًا من المسرحياتِ وبرزَ في دور “الفِقِي النَّصَّاب” في مسرحيةِ “نعمان عاشور” “النَّاس اللي تحتْ”. كما قدَّم بعضَ الأدوارِ الصغيرةِ في السينما بدايةً بفيلمِ “بنات حواء” عام 1954، في دورِ مَعْشُوق زينات صدقي “أبو اسكندر” كما قامَ بأدوارِ الطبيبِ ووكيلِ النِّيابةِ والضَّابط في مَشَاهدَ سريعةٍ.
ثُمَّ كانتْ البدايةُ الحقيقيةُ له في دورِ المعلم “كِرْشَه” في مسرحية “زُقَاق المَدَق” عن روايةِ “نجيب محفوظ” الذي أثْنَى على أداءِ رضا قائلًا له: “لقد جسَّدت تَخَيُّلِي للشَّخصيةِ بشكلٍ لا يصدقُ” لكنَّ هذا الدورَ صار سجنًا للفنان “رضا” لم يخرجْ منه إلا مراتٍ قليلةٍ بأدوارٍ لم يكتب لها النَّجاحُ، منها أدوارُه في مسرحياتِ “مطرب العواطف” و”نِمْرَة 2 يكسب ” و”المفتش العام” وجميعُها كانتْ على مسرحِ التليفزيون.. والحقيقيةَ أنَّ دورَ المَعَلِّم “ابن البلد” خفيفَ الظلِّ الذي تَلَبَّس رضا لم يسلبْه قدراتِه الفنيِة، بل كان دافعًا له على أن يُقَدِّمَ الدورَ في كل مرةٍ بشكلٍ مُختلفٍ، فيضيف إليه بالملابس و”الاكسسوار” و “الإفِّيهات” التي كان يحفِّزُ أبناءَه على ابتكارِها، بمكافأةٍ ماليةٍ قدرُها خمسُة جنيهاتٍ.
صارَ الفنانُ رضا الوريثَ الشَّرعيَّ لدورِ المَعَلِّم في السينما المصرية.. ليسَ وريثًا شرعيًا فحسبْ؛ بل خاتمةً لعقدٍ من المبدعين الذين لم يأخذوا من مِهْنَةِ الفن شيئًا سوى البُؤس والعِوز والنهايات المأساوية- رغم كفاحِهم الطويلِ.. بدايةً بعبد العزيز خليل الذي أبدعَ في دور المَعَلِّم الشِّريرِ في فيلم “العزيمة” 1939، ولكنَّه لم يطوِّر أداءَه رغم موهبته، ثم عبد الحميد زكي الذي قدَّم الدور في قالب كوميدي، لكنه كان ينطفئ بالكلية إذا تجاوز المشهد بضع دقائق، كما يؤكد الكاتب الساخر محمود السعدني، ثم العبقري قليل الحظ عبد الفتاح القّصْري الذي أبدعَ في الدور وأضاف إليه كثيرًا.. وإلى جوار هؤلاء يقف على استحياءٍ كل من عبد المنعم إسماعيل، ومحمد شوقي.. وفي الحقيقة أن رضا كان الأوفرَ حظًا من الجميع إذ وصلَ إلى البطولة المطلقة غير مرةٍ أشهرها في فيلم “رضا بوند” الذي تحوَّل إلى مسلسل إذاعي وفيلم “إمبراطورية المعلم” وفيلم “عماشة في الأدغال” الذي اُسْتُخْدِمَ كستارٍ من قِبَلِ رجالِ المخابراتِ المصريةِ في عملية تدمير “حفار” البترول الذي اشتراه العدو الصهيوني من “كندا” للتنقيب عن البترول في سيناءَ، وقد نجح رجال المخابرات في تفجير “الحفار” قُبَالةَ سواحل “كُوتْ دِيفْوَار”.
وفي التليفزيون أدَّى المَعَلم رضا أدوارَ البطولةِ في عددٍ من المسلسلاتِ منها مسلْسل “قهوة المَعَلم رضا” ومسلسل “نجم الموسم”.
من الأمور الطَّريفة، أنَّ مجمعَ اللغةِ العربيةِ قد أشارَ إلى أنَّ طريقةَ الفنَّان رضا في نطق نصف الكلمة دُونَ إكمالِها في أدائِه لشخصية “جِنْجِل أبو شَفطُورة” في فيلم “30يوم في السجن” إنتاج 1966، تُعدُّ خطرًا على اللغة العربية بعدَ انتشارِ تلك الطريقةِ، بينَ جموعِ المواطنينَ خاصة أبناء الطبقاتِ الشَّعبيةِ!
لمرةٍ واحدةٍ فقط قدَّم رضا شخصيةَ المَعَلِّم الشرير في فيلم “فقراء لا يدخلون الجنة” عام 1984، وتضمَّن الدور مشهدًا يغتصبُ فيه بطلة الفيلم.. حَزِنَ أفرادُ أسرةِ الفنان حزنا شديدا، وطلبوا من والدهم عَدَمَ قبولِ مثل هذه الأدوارِ مجددًا فوعدهم وقد كانَ.
كان ارتباطُ الفنَّان رضا بالمسرحِ أقوى بكثيرٍ من ارتباطِه بالسينما والتليفزيون.. وكان التزامُه في العملِ المسرحي شديدًا لدرجةِ أنَّه صعدَ المسرح وأدَّى دورَه في اليوم الذي توفي فيه والدُه الذي كان شديد الارتباط به.. والأكثر من ذلك أنَّه لم يتخلفْ عن المسرح حتَّى يومَ أن ماتتْ ابنته الوحيدة “أميمة” عن عمرٍ ناهزَ الثامنةِ والثلاثينَ، بعد صراع مع المرض دام عامين، وقد تركت له طفلين.. وكانت أميمة أعز إنسان في الوجود لديه.. لكنَّه تحامل على نفسه وصعدَ على خشبة المسرح، ومثَّل في تلك الليلة كما لم يمثل من قبل، وتعالت ضحكات الجمهور بينما قلب الفنان كان يقطر ألمًا.
يرى الكاتبُ الرَّاحلُ محمود السَّعدني أنَّ الظروفَ قدْ خَدَمَتْ الفنانَ محمد رضا كثيرًا؛ نظرا لتزامنِ ظهورِه مع بداياتِ التَّحول الاشتراكي في مصر “حيثُ أصبحَ للنَّاس البسطاءِ مكانٌ على مائدة السياسة المصرية، وأصبح لهم دورٌ في إعادة صِيَاغَةِ الحيَاةِ.. ولقد بدأ نجم رضا يلمع مع صُدورِ قرارات يوليو 1961، لذلكَ ظلَّ الفنانُ مرتبطًا بالتطور الاجتماعي في مصرَ، كما ظلَّ الفنانُ المصريُّ الوحيدُ صاحبَ المصلحةِ في تعميقِ هذا الاتجاه”.
اعتبر الفنَّان رضا هو آخر مِعَلِّمين الفن المصري؛ لأسبابٍ كثيرةٍ منها أنَّه لا ينافسه أحدٌ في موهبتِه الفريدة وخِفَّةِ ظلِّه، وقدرته على تطوير أدائِه، والإضافة إلى الشخصية مع كلِّ عملٍ جديدٍ، ومنها ما يتعلقُ بِتَغَيُّر الظرفِ الاجتماعي إذْ اختفتْ شخصية المَعَلِّم ابن البلد الشَّهم (المَجْدَع) من المجتمع المصري، وحلَّت محلها شخصياتٌ أخرى أشهرها شخصية البلطجي والسرسجي، وهو فتى المناطق الشعبية سيِّئ الخلق الذي يأتي بكل ما هو شاذٌ وغيرُ مألوفٍ وغيرها من الشخصيات التي أنتجتها ثقافة الاستهلاك والتسليع التي اجتاحتْ المجتمع مُنذُ أواسطِ السبعينات.
قدَّم الفنانُ محمد رضا أكثرَ من 60 عملا سينمائيًا، وعددًا كبيرًا من المسرحيات والمسلسلات التليفزيونية والإذاعية التي ما زالتْ تُشَاهَدُ وتُسْمَعُ إلى يومِنَا هذا عبرَ القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية.. وستبقى أعمالَه خالدةً في ذاكرةِ الشَّعبِ العَربي إلى ما شاءَ اللهُ كأحدِ صُنَّاع البسمةِ الكبارِ، وكأحدِ المضحكينَ البارزينَ في تاريخ الفن.
رحلَ الفنان رضا يومَ الحادي والعشرين من فبراير عام 1995، في أحدِ أيام شهر رمضان المعظم بعد أن صوَّر مشاهدَه الأخيرة في المسلسل التليفزيوني “ساكن قصادي” بعد عودته إلى المنزل أثناءَ إجرائِه حوارًا عبرَ الهاتفِ مع إذاعة القناةِ.. رَحِمَ اللهُ الفنان محمد رضا وَأَسْعَدَه كما أَسْعَدَنا كثيرًا بما قدَّمه من فنٍ جميلٍ.