كما كان متوقعا وفق عديد من المؤشرات.. انزلق السودان إلى دائرة المواجهات المسلحة، بين قوات الجيش بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة نائبه محمد حمدان دقلو “حميدتي”. وتُمثل هذه المواجهات المسلحة ذروة الأزمة السياسية المركبة، التي يمر بها السودان، منذ قرارات الجيش في أكتوبر 2021، بإنهاء الشراكة بين العسكريين والمدنيين.
وعلى مدار أسبوعين من المعارك، لم تصمد الهدنة التي أُقرت أكثر من مرة، لاعتبارات إنسانية؛ وفيما تقوم الدول بإجلاء رعاياها على وقع موجة نزوح غير مسبوقة، من الخرطوم والولايات السودانية التي تشهد توترات ومناوشات عسكرية، فإن أهم ما يمكن ملاحظته أن فضاء المسرح السوداني، يُخلى تحسبًا لحرب مفتوحة، تضع مستقبل السودان على مفترق طرق.
حسابات خاطئة
لقد جاء تفجر المواجهات العسكرية، التي يشهدها السودان حاليًا، بعد أيام من الإعلان عن مسودة الاتفاق السياسي النهائي في السودان، في مارس الماضي، 2023؛ وهو الاتفاق الذي وضع النقاط التفصيلية بشأن إصلاح المؤسسة العسكرية، وحدد أسس وخطوات دمج قوات الدعم السريع في الجيش؛ فضلًا عما نص عليه الاتفاق من تشكيل مجلس للأمن والدفاع، بعضوية القائد العام للقوات المسلحة، نائبه قائد قوات الدعم السريع.
واللافت، أن أكبر الحسابات الخاطئة، التي كشفت عنها الحرب الجارية في السودان، هي توقع أن طرفي الصراع كان بإمكانهما الاندماج في كيان واحد، في ظل عدم توافر الشروط المناسبة لذلك. إذ، إضافة إلى الاعتبارات الفنية، التي تشير لصعوبة الاندماج في ظل حالة اللاتماثل ما بين هيكلي الجيش النظامي و”ميليشيا” قوات الدعم السريع؛ فإن التحالف بينهما في مرحلة “إسقاط” البشير ونظامه، كان على أسس المصالح المشتركة في مرحلة الانتقال السياسي، وهي المصالح التي يمكن أن تتناقض في أية لحظة؛ فيحدث الصدام.. وهو ما حصل بالضبط في التناقض بين طموح الرجلين اللذين يُديران الحرب الناشبة بين قواتهما الآن.
أيضًا، يبدو أن أحد التساؤلات الخاطئة، والشائعة في الوقت نفسه، هو ذلك الخاص بـ”من” سيحسم الصراع من الطرفين(؟).. كون هذا التساؤل، يُمثل مدخلًا للتحول من الوساطة إلى الانحيازات، وبالتبعية الوقوع في فخ “الحرب بالوكالة”، وهي أحد أهم الدروس المستفادة من العديد من الصراعات الإقليمية.
الجوار الإقليمي
هذه الحسابات الخاطئة تطرح – ولاشك – المفارقة التي طبعت مواقف دول الجوار الإقليمي للسودان، من الصراع الذي يدور على أراضيه؛ فبالرغم من أن الأزمة السودانية الحالية هي الأعقد والأكثر حدة، منذ سقوط البشير في أبريل 2019، إلا أنها شهدت أدنى مستويات التدخل من جانب القوى الإقليمية، من دول جوار السودان، مقارنة بمختلف الأزمات السابقة والمتعاقبة خلال الأعوام الأربعة الأخيرة.
هذا الاتجاه غير المتوقع لسلوك دول الجوار لا يعكس عزوفا بالتأكيد، من جانب اللاعبين الإقليميين، أو تقدير أي منهم لمحدودية مصالحه، التي يمكن أن تتأثر بما يجري في السودان، وإنما جاء نتيجة مباشرة لمستوى الخطورة المرتفع للأزمة السودانية الحالية؛ خاصة إنها تحمل عددًا من الاحتمالات بشأن إمكانية إدخال السودان في حالة من الاحتراب الداخلي/ الداخلي الشامل، وكذا للتحول إلى صراع إقليمي متعدد الأطراف.
لهذا، غلب على دول الجوار السوداني، في الأزمة الحالية، تبني التصريحات والمواقف المسئولة، التي تُعد انعكاسًا لحساسية الموقف الميداني على الأرض؛ وهو ما يتأكد عند النظر إلى الحسابات الإقليمية بين السودان ودول جواره الإقليمي.
وهنا، يمكن القول بأن السودان يرتبط بجوار إقليمي معقد مع مصر شمالًا، على نحو يضعه في قلب تفاعلات ما أُصطلح على تسميتها بمنطقة الشرق الأوسط، هذا بجانب جواره الغربي مع كل من ليبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى، وهو الموقع الذي يُعزز من مكانته كلاعب مهم في إقليم الساحل الأفريقي؛ إضافة إلى جواره الجنوبي المتمثل في جمهورية جنوب السودان، التي ترتبط السودان بتفاعلات منطقتي البحيرات العظمى وشرق أفريقيا. وأخيرًا، يأتي ما يجمع السودان بإثيوبيا وإريتريا شرقًا، في دائرة تفاعلات القرن الأفريقي.
الحسابات الإثيوبية
وهنا أيضًا تُظهر المواقف الإثيوبية من الأزمة السودانية الحالية، والصراع العسكري في إطارها، نموذج دال في إجراء دول جوار السودان لحساباتها تجاه الأزمة والصراع، من حيث تأثيرهما على مآلات الأوضاع المستقبلية، إن على مستوى السودان، أو على مستوى الإقليم ككل.
ومن ثم، يمكن تحديد أهم الاتجاهات الرئيسة، التي تكشف عن التحيزات الإثيوبية تجاه التفاعلات في السودان، عبر اتجاهين رئيسين.. هما:
أولًا: الصدام مع القوات المسلحة السودانية؛ إذ، يبدو تفجر العداء بين إثيوبيا والجيش السوداني، منذ أن اتخذ الأخير قرارًا مبكرًا بالتصدي للاحتلال الإثيوبي لمنطقتي الفشقة الكبرى والصغرى؛ وهو الاحتلال القائم منذ تسعينات القرن العشرين الماضي. وقد ساهم هذا القرار في سلسلة من المواجهات المسلحة، تمكنت من خلالها القوات المسلحة السودانية من استرداد نحو 90 بالمائة من الأراضي السودانية.
وبالتأكيد، فقد فجرت هذه المواجهات صدامًا، مصحوبًا بحالة من العداء، بين إثيوبيا والجيش السوداني؛ خاصة أن إثيوبيا حاولت ترويج خطاب إعلامي، يتضمن نقطة أساسية مفادها أن التحركات العسكرية السودانية، جاءت استغلالًا للحرب في إقليم تيغراي.
ثانيًا: التقارب الإثيوبي مع قائد الدعم السريع؛ حيث يبدو ذلك التقارب بوضوح عبر زيارات حميدتي لأديس أبابا، في يونيو 2020، ثم في يناير 2022؛ وهي الزيارات التي جاءت متناقضة مع المواقف الرسمية للحكومات السودانية، ودون الحد الأدنى من التنسيق مع أي من شركاء الحكم من العسكريين أوالمدنيين في السودان.
بناءً على هذين الاتجاهين، لسلوك الحكومة الإثيوبية تجاه السودان في مرحلة ما بعد سقوط البشير، انعكست بوضوح في الموقف الإثيوبي من الأزمة السودانية الحالية. إذ، رغم امتلاك الحكومة الإثيوبية مصلحة واضحة في تفوق قوات الدعم السريع، أو في الحد الأدني بقائها لاعبًا رئيسًا في المشهد السوداني عسكريًا وسياسيًا؛ رغم ذلك، لم تتمكن إثيوبيا من تقديم دعم ملموس لقوات حميدتي.
ولعل ذلك يعود إلى عاملين أساسيين.. هما:
أولًا: التفوق الميداني الواضح للجيش السوداني؛ حيث بدا منذ اليوم الأول لاندلاع المواجهات، تفوق الجيش على قوات الدعم، خاصة في أقاليم شرق السودان ذات الحدود المشتركة مع إثيوبيا، والتي كانت الأسبق في إعلان إحكام القوات المسلحة على مقار الدعم السريع.
ثانيًا: الخشية الإثيوبية من رد فعل أمريكي سلبي؛ وهي الخشية التي بدت بشكل لافت، بعد زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لأديس أبابا، في منتصف مارس الماضي؛ خاصة أنها شهدت تشديد الضغوط الأمريكية على حكومة آبي أحمد بضرورة إحراز تقدم في مسار مفاوضات “السلام الهش” مع جبهة تحرير تيغراي.
موقف محسوب
في هذا السياق، يمكن القول بأن الموقف الإثيوبي، كـ”نموذج” على مواقف دول الجوار، من الأزمة السودانية وما تشهده من صراع عسكري، قد اتسم بأنه “موقف محسوب” وفقًا لتقديرات الحكومة الإثيوبية، في عدم دفع الإدارة الأمريكية لاتخاذ موقف سلبي من أديس أبابا، فضلًا عن عدم الدخول في صراعات، على المستوى الإقليمي، تدفع إلى إعاقة الدور الإقليمي الذي تحاوله إثيوبيا في منطقة القرن الأفريقي.
ومن ثم، لا يمكن قراءة الموقف الإثيوبي باعتباره مؤشرًا على تراجع الاهتمام بالسودان، وتداعيات الأزمة التي يشهدها هذه الأيام، بقدر ما يمكن فهمه على أنه محاولة لإرجاء عودة هذا الاهتمام إلى مرحلة تالية.