رؤى

في معنى الاستخلاف.. دلالة “الاصطفاء الإلهي” في استخلاف آدم

يأتي الاصطفاء كمصطلح قرآني ليُساهم ليس فقط في تفكيك الإشكاليات التي يُثيرها مفهوم الاستخلاف، في الفكر العربي والإسلامي؛ ولكن في إعادة تركيبها أيضا بما يسمح بوضع اليد على مكمن الخطأ الحاصل في مقولة “الإنسان خليفة الله في الأرض”. وبالتالي فإن تصحيح الخطأ يمكن أن يساهم في إعادة رسم ملامح مفهوم الاستخلاف، بل ومفهوم “الأمانة” التي حملها الإنسان، كمسألة محورية في الجعل الإلهي لآدم عليه السلام ليكون خليفة؛ نعني الأمانة بالمفهوم الذي يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا” [الأحزاب: 72].

وهنا لنا أن نؤكد ـبدايةـ على أن أسلوبنا يعتمد على “التحليل الدلالي” عوضا عن التفسير، وعلى “التبيين المنهجي” في إطار الوحدة القرآنية، بطرح الجزء في إطار الكل، عوضا عن التفسير التقليدي للكتاب في أجزائه.

في هذا الإطار، لنا أن نقترب من دائرة الدلالة التي يؤشر إليها مصطلح الاصطفاء، كما ورد في التنزيل الحكيم؛ وليكن مدخلنا هو التعرف على دائرة المعنى للفظ في اللسان العربي.

دلالة “الاصطفاء”

أصل الاصطفاء من الفعل صفو، الذي يدل على اختيار الشيء وخلوصه من كل شوب. بهذا، يكون الاصطفاء “من شيء” أو “على شيء”؛ لكن الاصطفاء ليس مجرد اختيار، بل هو “تفرد في الاختيار”، بمعنى أن الشخص أو الشيء المُصطفى لحدث ما هو مُتَفرد في هذا الحدث، ولم يسبقه إليه أحد، أو ليس له سابقة. وبناءً عليه، فإذا وجد الاصطفاء وجد المُصطفى منه، أو المُصطفى عليه؛ وأن هذا المُصطفى لابد وأن يُصطفى من أفراد جنسه وليس من أجناس أخرى.

ولعل هذا يتأكد إذا ما اقتربنا من دائرة الدلالة لمصطلح الاصطفاء، في المرات التي ورد فيها في كتاب الله الكريم، وهي ثلاث عشرة مرة.

فقد اصطفى الله لإبراهيم وبنيه الإسلام دينا، كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ” [البقرة: 132]. ولأن هذا الدين الذي اصطفاه الله هو دين مُتَفرِّد، ومن توقيع هذا التَفَرُد أنه لا يُجمع، فلا نقول أديان، لذا قال سبحانه: “وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ” [آل عمران: 85].

أيضا، فقد اصطفى الله إبراهيم عليه السلام من قومه وعلى قومه، حيث يقول تعالى: “وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ” [البقرة: 130]؛ ولأن هذا الاصطفاء ـفي الدنياـ هو اختيار مُتَفرِّد، لذا جعل الله إبراهيم إمامًا للناس، وهو ما جاء في قوله: “وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا” [البقرة: 124] بل وأكد سبحانه وتعالى على تفرد “مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ” في قوله: “وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ” [البقرة: 130].

ثم هناك الاصطفاء الإلهي لموسى عليه السلام على الناس كما في قوله سبحانه: “قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ” [الأعراف: 144]. ومن حيث إن اصطفاء موسى هو اختيار مُتَفرِّد، لذا فقد اختص الله تعالى موسى بـ”التَكْلِيم”، كما جاء في قوله: “وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا” [النساء: 164].

سمات الاصطفاء

ولنا أن نُلاحظ أن الاصطفاء، لكل من إبراهيم وموسى، عليهما السلام، يأتي مُرتبطًا بسمة محددة، واختصاص بأمر من أمور التشريع؛ ففي حال إبراهيم يأتي الاصطفاء مُرتبطًا بـ”مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ”، من حيث اقترانها بالحنيفية، كما في قوله تعالى: “ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ” [النحل: 123]. ولأن إبراهيم لم يكن “مِنْ الْمُشْرِكِينَ”، وكان “أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا” [النحل: 120] لذا فقد ارتبطت “مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ” ليس بالحنيفية فقط، بل اقترنت بالدين القيم، والصراط المستقيم؛ وهذا ما يدل عليه قوله سبحانه: “قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ” [الأنعام: 161].

أما في حال موسى، فقد جاء مُرتبطًا بالتنزيل التوراتي (عهدًا وقانونًا ووصايا عشر) ومُرتبطًا في الوقت نفسه بنهي موسى لقومه عن الانقلاب على أدبارهم، وهو ما يوضحه قوله تعالى: “وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ” [المائدة: 21]، وقوله: “وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” [البقرة: 53].

ولم يتوقف ورود الاصطفاء في آيات الله البينات على حالتي إبراهيم وموسى، ولكنه يمتد إلى مريم الصدّيقة التي اصطفاها الله على نساء العالمين. يقول سبحانه وتعالى: “وَإِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ” [آل عمران: 42]. وهنا، لنا أن نلاحظ ورود لفظ الاصطفاء مرتين في الآية، عبر حركة العطف “اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ”، وبينهما “طَهَّرَكِ” التي جاءت للفصل بينهما.

وفي اعتقادنا ـ بخلاف الخطأ الشائع حول مسألة “التكرار” ـ بأنه ليس بتكرار؛ فالتنزيل الحكيم لا يتضمن أي تكرار أو زيادة، بل دلالة مُضافة إلى المفهوم في حالة ورود اللفظ، أو الآية، أكثر من مرة. الدليل، أن الآية تُشير إلى اصطفاء إلهي لمريم مرتين؛ الأول، يتبين من خلال سياق الآيات التي سبقت هذه الآية، في نفس السورة. يقول سبحانه: “إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي” [35]، وعندما وضعتها: “قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى” [36]، ثم جاءت التسمية: “وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ” [36]، وهكذا جاء الاصطفاء الأول، عندما تقبلها الله: “c” [37]. أما الاصطفاء الثاني الذي كان اصطفاءً لمريم “عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ”، فيتبين من خلال سياق الآيات التالية لها، وصولًا إلى قوله تعالى: “إِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ” [45].

“الاصطفاء” المتفرد

في هذا السياق.. يتأكد أن الاصطفاء لا يكون إلا من جنس المُصطفى منه أو عليه؛ وبالتالي، فاصطفاء الله لآدم كان من جنسه الذين خلقهم الله من تراب، ثم اصطفى منهم آدم. يقول سبحانه وتعالى: “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ٭ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [آل عمران: 33-34]. ومن خلال تأمل الآية، نجد أن الاصطفاء يأتي بصيغة المُفرد في حالتي آدم ونوح، بينما يأتي بصيغة الجمع في حالتي آل إبراهيم وآل عمران؛ حيث كان الختام في آل عمران بيحيى بن زكريا، ثم الختام الكلي في آل إبراهيم بخاتم الأنبياء والرسل.. محمد صلى الله عليه وسلم.

بالنسبة إلى نوح عليه السلام، فقد بيَّن سبحانه وتعالى أن نوحًا هو أول من أُوحِي إليه من بني الإنسان، ومن جنس البشر، كما في قوله سبحانه: “إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ” [النساء: 163]؛ وكما في قوله تعالى: “ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ” [يونس: 74]. ولعل الأهم أن تاريخ الإنسان “الحديث” يبدأ بنوح، وذلك هو ما يوضحه قوله: “فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ” [يونس: 73]. وربما هذا ما يدل على السبب في ورود الاصطفاء لنوح، الذي كان أول نبي ورسول من بني الإنسان، بصيغة المُفرد.

وكما هو الحال مع نوح، كان الأمر مع آدم. فآدم هو أبو الإنسانية، وليس أبًا للبشر، الذين اصطفاه الله سبحانه وتعالى منهم، وليجعله خليفة لهم، أي لمن سبقه من جنس البشر، وليس خليفة لله، في الأرض. وإذا كان نوح أول من أُوحِي إليه، فقد كان آدم الذي اصطفاه الله من بين البشر، وميزه بالروح، أو تحديدًا بـ”نفخة الروح”، أول من اضطلع بمسئولية ومهام “الخلافة” في الأرض.

ولأن هذه المسئولية تتطلب تشريعًا إلهيًا، يُفارق بموجبه آدم سلوك من “يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ” [البقرة: 30]، فقد جاء هذا التشريع، كأول تشريع ديني في تاريخ الإنسانية، عبر الأسماء التي تعلمها آدم وأنبأ بها الملائكة.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock