بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن صحيفة مصر 360
في مشهد الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني كان المنتصر الأكبر هو سلطة الحكم ومؤسساته العميقة التي حققت تقريبا بمهارة وحذق كل أهدافها. حذق يتجلى ويلمع فقط عندما تستفيد وتعيد إنتاج خبراتها المتراكمة في الحفاظ على النظام والإجهاض المبكر للتهديدات التي يتعرض لها خصوصا عبر تفكيك وتشتيت المعارضة المنافسة له.
وعندما أقول كل أهدافها أتحدث خاصة عن تلك الموجهة للخارج المانح أو المقرض أو المستثمر الذي قد يكون على المدى القصير وبسبب السياسات الحكومية المتبعة «المنقذ» الوحيد لاقتصاد مصر الذي يترنح بشدة على حافة حفرة عميقة.
ما هي المظاهر التي يمكن على أساسها القول إننا شهدنا انتصارا كبيرا للحكم توازى معه هزيمة شبه ساحقة للمعارضة المصرية، خاصة للحركة المدنية التي قادت التفاوض مع الحكم خلال العام المنصرم:
1- تقديم مشهد تعددي منفتح للسياسة المصرية يختلف بل يتعارض تماما مع حقيقة الوضع السياسي المصري السلطوي المغلق القائم:
* إذ حضرت الأغلبية الساحقة للأحزاب السياسية المصرية سواء أحزاب الموالاة الجديدة، خاصة بعد 2013، أو أحزاب الموالاة ذات التاريخ السياسي القديم في المعارضة مثل التجمع والوفد.
* وحضرت أيضا أحزاب المعارضة الممثلة في أحزاب «الحركة المدنية» بما في ذلك بعض الأحزاب التي كان ممثلها قد صوت قبل أيام في اجتماع حاسم للحركة على رفض المشاركة في الحوار «المحافظين».
* وحضر التيار الإسلامي بوجهه السلفي ممثلا في حزب النور أو في تياره المنشق عن الإخوان بعد ثورة 25 يناير ممثلا في حزب «مصر القوية»، تم تمثيله في اليوم الافتتاحي للحوار بثلاثة أعضاء، رغم أن زعيم الحزب الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح مازال مسجونا منذ عدة سنوات.
* حتى ثورة يناير التي تعرضت لأكبر عملية اغتيال معنوي في العقد الأخير تم التجاوز – مؤقتا – وفي لمح البصر عن مقولة إنها وشبابها المسجون أو خارج السجن كانوا سببا في خراب مصر، لأن وجودهم في صورة الافتتاح ولقطته العامة يعطي صورة فيها مصداقية للخارج والداخل، فوجدنا مؤسس «6 أبريل» أحمد ماهر الذي سجن في العهد الحالي، وغيره من شباب يناير البارزين مثل مصطفى شوقي وخالد تليمة حاضرين في المشهد ومنضمين في اللحظة الأخيرة لعضوية الحوار الوطني.
* حضر حقوقيو منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني رغم مفارقة أن كثيرا منهم ممنوع من السفر ومن التصرف في أمواله ومنهم الحقوقي حسام بهجت الذي وثق حضوره بالصوت والصورة.
* حتى نظام مبارك القديم ناله من الحظ جانب ممثلا في بعض رموزه السياسية والحزبية والتنفيذية المدربين على كاميرات التلفزيونات وفلاشات الصحافة، وحضرت معه بعض تقاليده العتيدة في تفتيت الأحزاب في صيغة لجنة شؤون الأحزاب، ملاعبة أحزاب الحركة المدنية التي ربطت مشاركتها بالإفراج سجناء الرأي، فتم استدعاء وجوه قديمة ممن يزاحمون على رئاسة الحزب وتم عمدا توجيه الرسائل عبر التقاط صور لهم مع قيادات الحوار في جانب الدولة.
* ولإكمال رونق المشهد لم يتم أيضا نسيان دعوة بعض من نماذج قوة مصر الناعمة من مثقفين ورياضيين وفنانين، فشاهدنا حضور الكابتن محمود الخطيب والفنان محمود حميدة.. إلخ.
2- فرض قواعد اللعبة السياسية دون أدنى تنازل:
إذ استمرت السلطة السياسية والأمنية في عمليات القبض على المعارضين السلميين والصحفيين حتى من أعضاء أحزاب الحركة المدنية في الأيام السابقة على الافتتاح مثل السيدة نجوى خشبه من حزب الكرامة (أفرج عنها) وعلى السيدة عايدة عمر من الحزب الناصري (لم يفرج عنها حتى الآن).
وحتى في نفس يوم الافتتاح 3 مايو، والذي وافق بالصدفة اليوم العالمي لحرية الصحافة، حيث تم القبض على الصحفي حسن القباني (لم يتم الإفراج عنه إلا بعد إصرار مشرف من مجلس نقابة الصحفيين على عدم حضور افتتاح الحوار قبل الإفراج عنه). وبدا القبض على صحفي وكأن الإدارة تؤكد بنفسها وبشكل غير مباشر ما جاء في التقرير السنوي لمنظمة «مراسلون بلا حدود» الذي صدر في نفس اليوم أيضا والذي وضع مصر في قائمة واحدة من أكثر البلاد انتهاكا لحرية الصحافة والإعلام في العالم في المرتبة 166 متدهورة بسبع مراكز كاملة عن ترتيبها في عام 2016.
تواصلت عمليات القبض بعد لحظة الافتتاح المبهرة!! إذ نشرت مصادر حقوقية في اليوم التالي للافتتاح أنه تم القبض على عم وخال المعارض أحمد طنطاوي المصري الوحيد الذي أعلن ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة المقبلة 2024، وذلك قبل يومين فقط من موعد حدده قبل أكثر من شهر للعودة إلى بلده.
بعبارة أوضح لم تتراجع الحكومة فحسب عن تنفيذ ما تم التوافق عليه مع المعارضة من إطلاق سراح سجناء الرأي السلميين المقبوض عليهم ولكن قررت أيضا الاستمرار في إضافة أعداد جديدة وعدم التخلي عن أسلوبها المعتمد في القبض والحبس والتدوير والذي طلبت المعارضة وقفه تماما كحد أدنى من إجراءات بناء الثقة مع المجتمع.
صممت الإدارة الحاكمة حتى في أكثر لحظات التأزم الاقتصادي والسياسي الداخلي والخارجي وأكثر لحظات تراجع شعبيتها وضعف الرضا العام عنها على عقد الحوار مع المعارضة الحوار في ظل استمرارها في أكبر ظاهرتين قهرت المصريين في السنوات العشر الأخيرة وجعت قلوبهم وحياتهم المعيشية وهما؛ أولا: سياسة اليد الحديدية للأمن والمشار إليها حتى في لحظة انعقاد الحوار ومحاولة صنع “صورة ذهنية جديدة للنظام السياسي”. وثانيا: سياسة رفع الأسعار وزيادة الضغط على أعصاب المصريين، ففي نفس يوم الحوار الوطني رفعت الحكومة المصرية أسعار السولار، وهو نوع الوقود الذي يشكل محور حركة النقل البري لمواصلات الفقراء ومحدودي الدخل والنقل التجاري عصب الدورة الاقتصادية الداخلية.
3- فرض لاءات وخطوط حمراء على الحوار:
اكتمل نجاح الإدارة الحاكمة في فرض شروطها كاملة على المعارضة وعلى مسار وبالتالي نتائج الحوار بفرضها لاءات مسبقة وخطوط حمراء رادعة لا يستطيع الحوار أن يتخطاها، ومنها مثلا ما جاء في كلمات الافتتاح عن إغلاق الباب بصرامة ودون مواربة أمام ما اتفقت عليه تقريبا كل النخب المثقفة من أن الطريق لانفتاح سياسي ومفارقة النمط السلطوي الفردي يبدأ من ضرورة إعادة دستور 2014 إلى ما كان عليه عند إقراره وإلغاء التعديلات التي جرت عليه في أبريل 2019، واعتبر تفريغا له من مضمونه مثل التعديلات الخاصة بمدد الرئاسة، أو التعديلات المرتبطة بقانون السلطة القضائية والتي اعتبرتها نوادي القضاة وقتها انتقاصا من استقلال القضاء.
إضافة إلى هذا تم التشديد القاطع على أن كل «مخرجات الحوار» ستكون توصيات تعرض على السيد رئيس الجمهورية يقرر فيها وحده ما يراه.
هزيمة ساحقة ومظهر بائس للمعارضة
أمام نجاح السلطة في تقديم صورة وردية للعالم عن نظامها السياسي وفرض كل قواعد اللعبة علي أطراف الحوار الآخرين دون تنازل ولو شكلي عن تحكمها في السياسة والإعلام وتقييدها الحقوق والحريات العامة وانفرادها المطلق بصنع القرار دون مشاركة عامة شعبية أو حتى نخبوية من أهل الخبرة، كانت لحظة الافتتاح لحظة بائسة للمعارضة الجادة.
لحظة هزيمة ساحقة لدرجة أن كل من توافقوا على أن المعارضة ضعيفة لم يتخيلوا أنها وصلت إلى تلك الدرجة من الضعف التي تمنعها من إحداث أي تغيير في قواعد اللعبة السياسية القائمة.
ما هي المظاهر التي يمكن القول على أساسها إن احتفالية افتتاح الحوار كانت إعلانا عن هزيمة شبه ساحقة للمعارضة؟
أ- انشقاق المعارضة المصرية:
توقعنا في مقالات سابقة من أن الحوار بين سلطة دولة عميقة مدربة على الحفاظ على النظام السياسي القائم ومعارضة أضعفتها السجون والممارسات الأمنية وحصار الأحزاب واختفاء السياسة في الجامعة واختفاء الإعلام المستقل سينتج عنه انشقاقات في صفوف المعارضة المصرية، وهذا ماحدث، ولكن اللافت أن الانشقاق حدث قبل أيام قليلة فقط من موعد افتتاح الحوار الذي حامت شكوك كبيرة حول عقده بسبب موقف صلب.. علقت فيه الحركة المدنية مشاركتها في افتتاح 3 مايو/ أيار على شرط قيام الدولة بالإفراج عن مزيد من سجناء الرأي خاصة رموز وازنة مثل السجين الشهير أحمد دومة.
المفاجأة حدثت قبل يومين فقط عندما وقعت عدة شخصيات وطنية من رموز ثورة يناير على الانضمام للحوار وأصدرت بيانا بذلك وبالتالي أصبح ممكنا للإدارة الحاكمة المضي قدما في عقد جلسة الحوار الوطني بوجود الحركة المدنية أو بغيابها وهي الحركة التي كانت الشريكة الأساسية للدولة في الحوار الوطني منذ لحظة مصافحة الرئيس عبد الفتاح السيسي للرمز السياسي المعارض حمدين صباحي عند لحظة الدعوة للحوار في أبريل من العام الماضي وكانت الطرف الوحيد والثابت في حوارات ومفاوضات سياسية موازية على مدى الـ12 شهرا الماضية.
أصبحت الدولة بمقدورها أن تقول بملء الفم أن لديها بديلا للحركة المدنية يمكن أن يكون شريكا له صدقية في الحوار خاصة انهم مناضلين وسجناء رأي لا يمكن ولا يجوز المزايدة عليهم.
لكن الشعور بالانشقاق في صفوف المعارضة والغضب والمرارة شعور كبير مهما اجتهد الطرفان في إخفائه.
قيادي كبير في الحركة المدنية قال -شريطة عدم ذكر اسمه – أن انضمام هؤلاء الشخصيات خاصة القسم الراجح منهم من قيادات يناير كان «طعنة في الظهر»، وتحدثت منى سيف أخت الناشط علاء عبد الفتاح عن أن هذا الموقف كسر موقفا صلبت فيه الحركة المدنية عودها و أصرت فيه على ضمانات تقدمها الدولة تبين جدية نواياها في الحوار كشرط للاستمرار فيه وأعطت مثالا بتصميم الأخيرة على إطلاق سراح أحمد دومة المسجون منذ عشر سنوات كاملة قبل أن تقبل بالمشاركة في جلسة افتتاح الحوار.
قيادي آخر في الحركة المدنية لفت النظر إلى مفارقة مدهشة؛ وهي أن بعض من وقعوا على بيان الدخول للحوار متجاوزين في ذلك الحركة المدنية تعجلوا في التوقيع إلى درجة أنهم لم ينتبهوا إلى واقع أنهم موجودون بالفعل منذ شهور في لجان الحوار وفي مناصب قيادية للمقررين بترشيح من الحركة المدنية.
ب- انشقاقات داخلية في أحزاب المعارضة نفسها:
لم يقف الانشقاق في المعارضة على المستوى الأفقي بين أحزاب في جبهة وطنية واحدة ولكن كأحزاب مستقلة ولكن انتقل رأسيًا إلى الأحزاب ليمزقها من الداخل في إضعاف مزدوج، ولم يكن غريبا أن يتوجه جهد تحفيز الانشقاق إلى حزبين تحملا دورا رئيسيا في تنسيق مواقف الحركة المدنية من الحوار، الحزب الأول؛ هو حزب الكرامة الذي نظر إلى مؤسسة حمدين صباحي كزعيم رئيسي للمعارضة والحركة المدنية. والحزب الثاني هو حزب المحافظين الذي استضاف مقره وسمحت موارده المالية بتنظيم وتحمل تكاليف فعاليات واجتماعات الحركة التي صاغت فيها تصورا جماعيا توافقيا وبديلا لسياسات الحكم لطرحها على الحوار والرأي العام.
اللافت للدهشة أن انشقاق أعضاء في حزب المحافظين جري لاعتراض المنشقين على رفض الحزب المشاركة في الحوار بينما جاء انشقاق حزب الكرامة للاعتراض علي موافقة الحزب على المشاركة في الحوار.
ج – حضور قلق محدود وغير سعيد للحركة المدنية:
انعكست حالة الانشقاق الأفقي والرأسي على مشهد غريب نسبيا لا يتفق مع مجريات الأحوال في السنة المنصرمة جرى فيه تهميش الحركة المدنية التي كان يفترض بجدارة أن تقتسم المشهد بالتساوي مع ممثلي الدولة. بدت الحركة وأحزابها وشخصياتها العامة الجهة الأقل حضورا والأقل سعادة بالحضور في يوم افتتاح الحوار.
كان ذلك واضحا من غياب رمزها السياسي حمدين صباحي ورغم ظروف وفاة شقيقته إلا أن غيابه وغياب رفيقه السياسي كمال أبو عيطة وكذلك رئيس الحزب السيد الطوخي عن الحضور وكذلك غياب ممثلي التحالف الشعبي والشيوعي المصري والاشتراكي المصري كان غيابا سياسيا بامتياز ونوعا من الاحتجاج السياسي الضمني على تمكن الدولة العميقة من تخفيض مكانة الحركة المدنية في الحوار وعلى تحويلها من الطرف الثاني أمام طرف الدولة إلى مجرد طرف من أطراف عدة عليه أن يعلم أنه سواء حضر أو غادر شارك أو غاب فإنه سيتم استكمال مشهد الحوار حتى النهاية بعبارة نجحت ضغوط خبرة الدولة العميقة وتعجل معارضين محترمين الحضور في المشهد والتأثير فيه إلى خلط الؤراق واختلاط الحابل بالنابل بعد أن كان هناك طرفان اساساسيان يمكن للمجتمع المصري وجماهيره الانحياز لأي منهما ومحاسبة أي منهما على ما سيؤول إليه الحوار.
مراجعة لكلمة الأستاذ فريد زهران رئيس الحزب المصري الديمقراطي في افتتاح الحوار كفيلة بالتعبير عن شعور المعارضة بأنها دخلت مضطرة بعد انضمام رموز يناير المفاجئ وشعورها بأنها تحاول تخفيف عملية تهميشها تماما في التفاعلات المستقبلية.
ماهي نتائج هذا النمط شديد الاختلال في علاقات القوة في أي حوار أو مفاوضات بين طرفين كما عبر عنه حفل افتتاح الحوار الوطني؟
– المقدمات تقود للنتائج وبالتالي فإن نتائج الحوار ستعكس رغبة الإدارة الحاكمة في الإبقاء على السياسات القائمة بكل انحيازها للطبقة المسيطرة التي تعبر عنها من جهة، وفي ضمان استمرارها كسلطة وكأفراد في سدة الحكم في انتخابات رئاسية أقل إثارة للانتقادات الدولية والداخلية من سابقتها، ولن تعكس بحكم هذه الموازين المختلة رغبة المعارضة في تغيير السياسات القائمة والتي قادت مصر إلى أزمة مستحكمة غير مسبوقة. وحتى لو مرت بعض التعديلات الجزئية تغيير مواد الحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية أو في قوانين الانتخابات فإنها لا تملك القوة لإلزام الدولة بتنفيذها طبقا للمعايير الديمقراطية المتعارف عليها.
– بعبارة أوضح فإن قراءة فاحصة تتعدى فلاشات كاميرات الإعلام وحضور سفراء الدول الأجنبية في الحفل الافتتاحي تقول إن سلطة سياسية ترفض التخلي عن انفرادها بالحكم ولا الاعتراف بأزمتها ومعارضة سياسية أضعف من أن توحد صفوفها في مواجهة عمليات شق جبهتها قد يضيعون على مصر فرصة تاريخية أخرى لإحداث تحول ديمقراطي وتحويل محنة الحاضر إلي منحة المستقبل.