إذا كان “الجعل”، كمصطلح قرآني، لا يعني خلق شيء جديد مستقل بذاته، وإنما هو إحداث تغيير ما في شيء موجود من قبل، أي عملية تحويل شيء من حال سابقة إلى حال جديدة من دون استبدال الشيء ذاته؛ لذا، يكون التساؤل: ما هي دلالات اختلاف ورود صيغة “جعل”، في ارتباطها بلفظ “خليفة” في آيات التنزيل الحكيم؟
لنا أن نُشير بداية، إلى أن لفظ “خليفة” قد ورد في القرآن الكريم مرتين؛ فيما يصل ورود لفظ “خلف” ومشتقاته إلى 127 مرة. إلا أننا هنا، وبصورة محددة، سنحاول تلمّس دلالات لفظ “خليفة” مبدئيًا، في وروده سياقيًا مع لفظ “جعل”، خاصة أنه يطرح إشكالية كبرى في تاريخ الفكر العربي والإسلامي، نعني إشكالية استخلاف آدم -عليه السلام- ليكون “فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”
آدم خليفة
ما دلالة أن يكون آدم “فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”.. هل خليفة لله سبحانه وتعالى، في هذه الأرض؛ كما ورد عند البعض من القدماء والمحدثين على حد سواء، أم خليفة لمن؟ وهو تساؤل كنا قد حاولنا الإجابة عليه من قبل؛ إلا أننا هنا، نحاول الإضافة في سياق متتالية البحث في الفارق بين البشر والإنسان في التنزيل الحكيم.
ولعل نقطة البدء، تلك التي تتمثل في قوله سبحانه وتعالى: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” [البقرة: 30]، وهنا، يبدو أن “الجعل” هو تغير في الصيرورة، إذ لم يكن آدم خليفة فأصبح؛ تمامًا كقوله سبحانه لإبراهيم “قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا”[البقرة: 124]، إذ لم يكن إبراهيم -عليه السلام- إمامًا فأصبح إمامًا. وهو ما يتضح في قوله سبحانه: “فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ” [يونس: 73]، وفي قوله تعالى: “وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ” [القصص: 7].
وبالعودة إلى قوله سبحانه وتعالى: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” [البقرة: 30]؛ نجد من يقول أن آدم عليه السلام، بناءً على هذه الآية، خليفة الله في الأرض.
ففي تفسيره لهذه الآية، يؤكد الرازي، كمثال، في “التفسير الكبير”، فيقول: “اعلم أن هذه الآية دالة على كيفية خلقه آدم -عليه السلام- وعلى كيفية تعظيم الله تعالى إياه”.
أما الطبرسي، فيذكر في “مجمع البيان لعلوم القرآن” أن ” جاعل في الأرض خليفة، أي خالق في الأرض خليفة، وأراد بالخليفة آدم -عليه السلام- فهو خليفة الله في أرضه”.
وفي ما يبدو، عبر هذين المثالين وغيرهما، من القرطبي إلى البيضاوي، وصولًا إلى المراغي من المحدثين، فإن ثمة خلط بين جاعل وخالق؛ هذا فضلًا عن عدم الالتفات إلى دلالات الصيغة التي ورد فيها لفظ “خَلِيفَةً”، وهي صيغة “النكرة” التي تفيد العموم.
إذ، لم يُفرق البعض من المفسرين بين قوله سبحانه: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” [البقرة: 30]؛ وبين قوله تعالى: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ” [الحجر: 28]؛ وقوله: “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ” [ص: 71]. وكما يبدو، فقد تعاملوا مع هذه الآيات الكريمات على أنها مترادفات، وهي إشكالية كبرى، من حيث إن “إِنِّي خَالِقٌ” شيء، و “إِنِّي جَاعِلٌ” شيء آخر تمامًا؛ هذا، فضلًا عن الاختلاف بين “بَشَرًا” وبين “خَلِيفَةً”، من حيث إن الأخير ينصرف إلى البشر بعد التسوية ونفخة الروح، ليكون مؤهلًا ليكون “فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”.
ولكن، ماذا عن قول البعض بأن آدم خليفة الله سبحانه وتعالى في الأرض؟
دلالة الخليفة
بخصوص الجذر “خ ل ف”، جاء في “معجم مقاييس اللغة”، لابن فارس، أن “الخاء واللام والفاء أصول ثلاثة تأتي لأحد معان ثلاثة، الأول أن يجيء شيء بعد شيء فيقوم مقامه؛ والثاني خلاف قُدام، ويكون هذا المعنى بتسكين الوسط خَلْف. أما الثالث فهو الاختلاف والمخالفة ومنه إخلاف الوعد”.
في هذا المعنى الأخير، أي التنازع في خلافة شخص لآخر في قوله أو فعله رغم وجوده، يأتي قوله سبحانه: “وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ” [آل عمران: 105]. وقوله تعالى: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ” [آل عمران: 19]. وفي المعنى الثاني، أي تخَلَفَ ضد تقدم أو خَلْف ضد قُدام، يأتي قوله سبحانه: “فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ” [الأعراف: 169]؛ وقوله: “فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ” [مريم: 59]. وأيضًا، يأتي قوله تعالى: “فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً” [يونس: 92]؛وقوله: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” [يس: 45].
أما في المعنى الأول، أي مجيء شخص بعد آخر ليقوم مقامه، يأتي قوله سبحانه وتعالى: “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ” [الأنعام: 165]؛ وقوله سبحانه: “وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً” [الأعراف: 69]؛ وقوله تعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ” [فاطر: 39]. ولنا أن نلاحظ الاختلاف بين قوله سبحانه: “جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ”؛ وبين قوله تعالى: “جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ”، بإضافة حرف الجر “فِي” إلى الثاني، من خلال العبارة التالية لكل منهما، ودلالتها.
وهكذا، يبدو ارتكاز دائرة المعنى على نقطة رئيسة، مفادها أن الجذر “خلف”، يؤشر إلى مجيء شخص بعد آخر ليقوم مقامه، ومصدره الخلافة. وهو ما يتبدى بوضوح في قوله سبحانه: “وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ” [الأعراف: 142]؛ وقوله تعالى: “وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي” [الأعراف: 150].
خليفة لمن؟
هنا، يثور التساؤل: آدم عليه السلام خليفة.. ولكن خليفة لمن؟
إذا حاولنا الاقتراب من دائرة الدلالة للمصدر “خليفة”، كما تبينها آيات الذكر الحكيم، فإن أول ما يمكن ملاحظته هو ورود لفظ “خليفة”، على وزن فعيلة وجمعه خلائف وخلفاء، في موضعين؛ في حين ورد لفظ “استخلف” – بصيغة الماضي والمضارع – في أربعة مواضع. أما لفظ “مستخلف”، وهو اسم مفعول لخلف، فقد ورد في آية واحدة هي قوله سبحانه: “آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ” [الحديد: 7].
وإذا كان الخلط بين اسمي الفاعل “خالق” و”جاعل”، هو ما أدى بأطروحات الكثيرين من السلف، وتابعيهم من الخلف، إلى القول بأن الإنسان خليفة الله في الأرض؛ وهو قول ـ في اعتقادنا ـ غير صحيح.. فإن الخلط بين لفظتي “بشر” و”إنسان”، والتعامل معهما على أنهما يؤديان إلى المعنى نفسه، كان قد ساهم في تأكيد الاستنتاج الخاطئ إياه.
ولنا أن نتأمل قوله سبحانه وتعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ” [الروم: 20]؛ إذ، لنا أن نلاحظ أن الانتشار في الأرض كان قد حصل في مرحلة البشر، قبل مرحلة “الاصطفاء الإلهي” لآدم، وقبل “نفخة الروح”، وقبل “التسوية”، أي قبل مرحلة “الأنسنة”. ثم، لنا، أيضًا، أن نلاحظ كيف وردت الأداتين “ثُمَّ إِذَا”، بين “خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ” وبين “أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ”، للدلالة على الفترة الزمنية بين المرحلتين، مرحلة الخلق ومرحلة الانتشار؛ حيث “ثم” تدل على التعاقب مع التراخي، في حين أن “إذا” هي ظرف لما يستقبل من الزمن، وورودهما معًا إنما يؤشر إلى طول الفترة الزمنية بين الخلق والانتشار.
وفي الإطار، نفسه، تتأكد ملاحظة أن الملائكة لم تتساءل عن عملية خلق البشر، أي عن المخلوق، أو عن أفعاله، مع ملاحظة أنهم امتثلوا لأمر الله في السجود لآدم؛ وذلك على عكس تساؤلهم بالنسبة إلى عملية “جعل آدم خليفة”.
وهكذا، وعبر التمييز بين الخلق البشري والاستخلاف الإنساني، يتأكد لدينا عدم صحة المقولة التي انسابت من بين يدي الكثيرين من السلف، ومن سار على دربهم من الخلف، نعني مقولة “آدم خليفة الله على الأرض”. إذ، إن آدم عليه السلام، بعد التسوية والاصطفاء ونفخة الروح، إضافة إلى الأسماء التي تعلمها، أصبح يختلف عن البشرية من قبله؛ أي أصبح خليفة لمن كان قبله من البشر من نفس جنسه، ليؤدي كـ”إنسان” مهمته التي استخلفه الله سبحانه من أجلها.
فما هي الأسماء التي تعلمها آدم عليه السلام؟