ثقافة

في ذكرى ميلاد أحمد فؤاد نجم.. من “حاحه” و”عبد الجبار” إلى “زيارة الضريح”!

مرت أمس ذكرى ميلاد نجم.. ولأنني لا أدّعي الصداقة العميقة بالرجل، فإنني لا أتردد في الحديث عنه، بقدر من الموضوعية التي قد تُعجب البعض، وقد تُغضب بعض تلاميذه ومريديه.

شأني شأن غالبية جيلي، كنت  أسمع عن شاعر فصيح، ومُطرب مُبدع كفيف، الأول اسمه أحمد فؤاد نجم، والثاني اسمه الشيخ إمام، سمعت عنهما وتعرفت فنهما في تلك السنوات التي أعقبت هزيمة يونيه ١٩٦٧.

كانت له قصيدة عنوانها “بقرة حاحه” والمقصود بها مصر، بعد أن تردّى بها الحال وما آلت إليه بعد شهر يونيه الحزين، أما القصيدة الثانية فهي بعنوان “عبد الجبار”، وعبد الجبار هذا، هو الرئيس جمال عبد الناصر لا سواه، فهو الذي خربها مداين، بعد أن “خبّطنا” تحت “بطاطنا” والباط كما هو معروف في العامية المصرية، هي تلك المنطقة العُليا من الجسد والتي تقع بين الذراع وجسم أي انسان.

المُهم استمعت لهاتين القصيدتين، ولم أُبدِ أي سعادة بهما، فقد أصابني الضيق بل والقرف، فلم أعتبر هاتين القصيدتين هجوما على شخص الرئيس عبد الناصر، بقدر ما أحسست أنهما يحملان ظلما وإهانة كبيرة لمصر، ولجيش مصر!

كان استماعي لهما في إحدى الأمسيات الثقافية الليلية على مقهى الفيشاوي، أحد أهم مقاهي مدينتي، ومع زملاء جاءوا من القاهرة، في سرية وكتمان، كانوا ينشطون وقتها، لبناء حزب شيوعي جديد، أولهم كان المرحوم الأستاذ زكي مراد المحامي، وزميله الأستاذ أحمد نبيل الهلالي، وهما أحد قيادات الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني والمعروفة تاريخيا باسم حدتو، أما الصديق الثاني فكان اسمه عيدروس القصير وهو ممن انشقوا على حدتو، وراح يسعى في البلاد هو وبعض زملائه، أذكر منهم الدكتور عبد المنعم تليمة، الأستاذ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، والمناضلين محمد عباس فهمي وطاهر البدري – لتكوين حزب شيوعي جديد يحمل اسم “التيار الثوري” وهو من بقايا عناصر، رفضت قرار حل الأحزاب الشيوعية في أبريل عام ١٩٦٤، وتختلف بل وتتهم الآخرين، ومنهم الأستاذين زكي مراد ونبيل الهلالي، بأنهما ممن تزعموا قرار الحل والعمل مع سلطة يوليو، وجمال عبد الناصر والانضمام إلى التنظيم السياسي الوحيد للدولة والعمل ضمن  تشكيلاته، وأعني تنظيم الاتحاد  الاشتراكي.

ولأن هذا الموضوع يطول الحديث فيه لأهميته وبما فيه من معلومات كثيرة هامة وخطيرة ومُثيرة – فإنني أؤجل الحديث فيه؛ لكي أعود إلى أحمد فؤاد نجم.

ما سمعته مقروءا على المقهى، من بعض الأصدقاء من الشيوعيين القُدامى ممن خرجوا من المعتقلات إبان سنوات الصدام -في الظلام- بين الثورة واليسار، على حد تعبير المفكر اليساري  الكبير الدكتور أنور عبد الملك، سمعته بعد ذلك مسموعا على شرائط الكاسيت التي كانت مشهورة في هذه الأيام عند أحد الأصدقاء في بيته، وبحضور عدد ممن جاءوا من القاهرة.

غير أن سنوات السبعينيات جاءت معها بمفاجأة، فبعد الاستماع الأول لقصائد نجم وإمام بسنوات شاء القدر أن أرى لأول مرة هذا الثنائي الرائع والمُدهش، وذلك في أمسية ليلية قاهرية ماركسية بامتياز،  في بيت أحد أهم مفكري اليسار في مصر.. كان يوما مشهودا، فقد عرفت عن قرب أسماء كبيرة كنت أنا وجيلي يقرأ لهم ويسمع عنهم، ولم يرهم.

كانت الغالبية العظمى منهم من قيادات الحركة الشيوعية المصرية خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، ثم عمل العديد منهم في دولة يوليو، وتولّى بعضهم مناصب مرموقة  في هذه الدولة، خاصة في مواقع قيادية بمؤسسات الثقافة والفكر، والبعض منهم عمل مستشارا في رئاسة الجمهورية، وبالقرب من الرئيس عبد الناصر نفسه أذكر منهم الدكتور إسماعيل صبري عبد الله، وزميله الدكتور إبراهيم سعد الدين والدكتور فؤاد مرسي.. رحمهم الله جميعا.

كانت تلك الفترة، وخلال حكم الرئيس السادات، وتحديدا في السنوات التي تلت حرب اكتوبر المجيدة، قد شهدت صعودا مُخيفا لقوى اليمين في مصر، حيث بدأت سياسة الانفتاح، التي  أسماها الأستاذ أحمد بهاء الدين، انفتاح “السداح مداح” فيما سبق اندلاع المعارك، معارك حرب أكتوبر، مظاهرات عارمة في الجامعات المصرية تطالب بالحرب والديمقراطية، أما تلك الفترة  التي أعقبت أكتوبر، ومع الزيارات المكوكية لوزير الخارجية الامريكية آنذاك، هنري كيسنجر للقاهرة وبعض عواصم المنطقة، تبدّلت التوجهات السياسية للنظام!

كان الرئيس السادات، الباحث عن شرعية جديدة تخالف شرعية سلفه، قد وجد في انتصار مصر في تلك الحرب ضالته، التي سينقل الوطن تحت ظلالها، من حالة الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية، إلى حالة كاملة من التبعية للغرب، وتحديدا الولايات المتحدة، وكان كل هَمِّ الرئيس وإعلامه ومعاونيه، هو تفكيك دولة يوليو، وتصفية مؤسساتها على كل صعيد.

في تلك الفترة تغير اهتمام أحمد فؤاد نجم، من نقد نظام عبد الناصر، على نحو ما جاء في “بقرة حاحه” و”عبد الجبار” إلى وجهة أخرى.

كانت قصائد “أنا رحت القلعة وشُفتْ ياسين” و”الجدع جدع والجبان جبان”  و”واه يا عبد الودود يا رابص على الحدود” و”مصر يا أمَّة يا بهية، و”رجعوا التلامذة” و”شرفت يا نيكسون بابا، يا بتاع الوتر جيت” و”فاليري جيسكار ديستان والست بتاعو كمان” و”بيان هام”… وغيرها. هي التي يسير بها نجم وإمام بين الناس، في المؤتمرات الجماهيرية الحزبية، وفي الجامعات، وفي الأمسيات المنزلية.

جاءت سنة ١٩٧٧، ونُذُر أزمة وطنية ومجتمعية تلوح في الأفق، فقد اشترط صندوق النقد الدولي على نظام الرئيس السادات إجراء ما أسماه “إصلاحات اقتصادية” فما كان من هذا النظام سوى الانصياع لمطالب الصندوق، وأخذت الحكومة مجموعة من القرارات الكارثية، فاندلعت الانتفاضة الشعبية التي هزت مصر والنظام في يومي ١٨ و١٩ يناير، فتراجع السادات عن قراراته، وبدأت حملة هائلة من الاعتقالات شملت القوى الحية، سياسية وشعبية، في أغلب محافظات مصر.

كنت من بين من اعتقلوا، كان ذلك عند ساعات فجر يوم السبت الموافق ٢١ يناير من هذه السنة، سنة ٧٧ وما إنّ دخلت عنبر التأديب في سجن طرة العتيد، حتى سمعت من مكان بعيد عمن يسأل عن اسمي! كان الصوت الذي لم أعرف مصدره، هو صوت أحمد فؤاد نجم.

كانت أواصر الصداقة قد ربطت بيني وبين هذا الشاعر المُتهم  دوما بتهمة “تكدير الأمن العام، وقلب نظام الحكم” وهي تهمة لازمته في كل العصور!

كان الحبس الانفرادي من نصيبه ونصيبي، ونصيب كل من ضمه هذا العنبر الرهيب.

استمرت هذه الحالة نحوا من أربعين يوما أو يزيد.

لم تكن الحياة تدب في العنبر إلا عند ساعات الليل حيث يبدأ “نجم” في إلقاء قصائده.

كنا نستمع ونردد معه أشعاره، فالكل معه مجرد “كُورَس” أما هو فهو فكان “سيدة الغناء العربي، وكوكب الشرق” معا!

هو “سيد المُعتَقل” بلا مُنازع، هو “الضوء” في ظُلمة  السجن.

غير أن تلك الفترة التي أعقبت انتهاء فترة السجن الانفرادي، كشفت لي ولكل من كان معنا، أننا مع “نجم” كنا نشعر بالأمان، فكل من كان يحكم هذا المعتقل ويقوده، من المأمور والضباط وصف الضباط ورجال المباحث والجنود كانوا يعرفونه ويحبونه، وينصاع الكثير منهم لطلباته، ولم تكن طلباته سوى طلبات جميع المعتقلين!

كان تردده الدائم على كل سجون ومعتقلات مصر، قد خلق منه حالة سياسية وانسانية لا يُنافسه فيها أحد.. وذات صباح جاء الخبر الصاعق، فقد تقرر نقل “نجم” الى سجن “أبو زعبل” بحجة ازدحام عنبر التأديب، في سجن طُره، -الذي نقيم فيه- بساكنيه!

غير أن الحقيقة كانت غير ذلك، فقد نشط “نجم” في الحديث مع السجناء الجنائيين الذين كانوا يترددون على عنبرنا لأعمال النظافة والحلاقة، كان يحرضهم على انتزاع حقوقهم من إعاشة وعلاج وراحة من إدارة  السجن.

ذكريات كثيرة ومثيرة ورائعة أحملها عن تلك الفترة، منها أن زنزانتي، رقم ٧، كانت موضعا دائما للنقاشات السياسية والفكرية والثقافية اليومية، بين الرفاق وعندما كان يزداد روادها، كنا ننقلها إلى ساحة العنبر.

غير أنني لا أنسى ذلك الموقف الذي انتصر لي فيه “نجم”، عندما كنت أتحدث عن الدور التقدمي للدين الإسلامي، وأنه لا سبيل لنجاح الحركات التقدمية واليسارية في مجتمعنا المصري والعربي، سوى بإدراك هذا الدور، فلا يمكن تحقيق أي إنجاز شعبي، ونحن في حالة خصومة أو عداء أو تجاهل للدين الإسلامي، أو غيره من الأديان.

وقد اعترض على ما أقول بعض الزملاء، وطال النقاش معهم، غير أن “نجم” أيّد موقفي، وقد أذهلتني معرفته الدقيقة بالقرآن الكريم، وتفسيره، وحفظه الكثير من سوره!

شاركه في نفس الموقف، مؤيدا رؤيته، شاعر مُناضل آخر هو الأستاذ سمير عبد الباقي أطال الله عمره.

مرت السنوات سريعا، وتفرقت السُبل، وجاء اليوم الذي كُنت فيه في العاصمة السورية دمشق، حماها الله، كنت مدعوا من التلفزيون السوري، لإعداد وإخراج فيلم وثائقي عن حرب أكتوبر، كان الفيلم اسمه “راية تشرين” وعرفت من بعض الأصدقاء، أن “نجم” مقيم في دمشق، لم يكن مُقيما على حساب الحكومة السورية، كان مُقيما على حسابه الخاص، في أحد البيوت المتواضعة والفقيرة، في مخيم اليرموك للفلسطينيين، رافضا كل عروض حزب البعث وامتيازاته.

كان شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري وقتها، وذلك في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، قد ترك موطنه لخلاف عميق مع الرئيس العراقي صدام حسين -رحمه الله- مُتوجها إلى دمشق، مستوطنا إياها كلاجئ سياسي.

كان الصراع بين جناحي حزب البعث في البلدين قد وصل الى الذروة، فقد وقفت دمشق إلى جانب إيران في حربها الدامية والوحشية مع العراق، وانطلقت مواكب التبجيل للرئيس السوري حافظ الأسد، وطُلب من الأستاذ الجواهري قصيدة لكي يُشارك بها في تلك المؤتمرات والمهرجانات الحافلة، وذلك ردا على مهرجانات مُماثلة كان يُقيمها حزب البعث العراقي في بغداد والبصرة وغيرهما، وكان أهمها مهرجان “المربد” لتمجيد خصمه العنيد صدام حسين!

فوعدهم بإلقاء قصيدة بنفسه، وفي المكان الذي يحددونه.

كانت بعض أبيات القصيدة تقول:

“يا حافظ العهد يا طلّاع ألوية..

تناوبت حلبات العزّ مُستبقا..

تزلزلتّ تحتهُ أرض فما صُعقا..

وازخرفت حولهُ دُنيا فما انزلقا…

ثم كان أن  توجّه ذات صباح أحد  المسئولين في الدولة السورية إلى حيث يقيم أحمد فؤاد نجم في مخيم اليرموك؛ ليطلب منه ما طلب من شاعر العرب الكبير.

وعدهم نجم بما سعوا إليه، وأرسل إليهم قصيدته في اليوم التالي، لينظروا فيها قبل أن يلقيها في مؤتمرهم.

كانت القصيدة عن جمال عبد الناصر، وكان عنوانها “زيارة لضريح عبد الناصر”.

أرسل إلى أولي الأمر والنهي والقرار قصيدته، غير أنه لم يذهب لمهرجانهم، كان قد ذهب في الصباح الباكر إلى مطار دمشق مُغادرا حاضرة الأمويين، حيث مقام الناصر صلاح الدين!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock