بقلم: عامر سلطان، نقلًا عن بي بي سي
كشفت وثائق أن بريطانيا درست حشد تأييد الدول الغربية لتدخل عسكري دولي في مصر بعد إعلان الضباط الأحرار الانقلاب على النظام الملكي في 23 يوليو/تموز عام 1952.
ووفق وثائق بريطانية، اطلعت عليها، وجهت لندن إنذارا شفهيا مباشرا إلى اللواء محمد نجيب، قائد الضباط الأحرار، بأنها وضعت قواتها في مصر والشرق الأوسط في حالة تأهب للتحرك لو تعرضت أرواح البريطانيين للخطر.
وتؤكد الوثائق أن بريطانيا فوجئت بتحرك الضباط، ولم تكن لديها معلومات عنهم أو عن نواياهم.
لم تكد تمر 17 ساعة بعد بيان الضباط، الذي قرأه عبر الإذاعة محمد أنور السادات صباح 23 يوليو/تموز، حتى عقد مجلس الوزراء البريطاني اجتماعا نوقش فيه الوضع في مصر.
يكشف محضر الاجتماع عن أنه نظرا لأن السفير البريطاني في القاهرة رالف ستيفنسون كان في إجازة، فإن القائم بالأعمال البريطاني في القاهرة، إتش جيه كريزويل، تلقى رسالة من عضو في الحكومة المصرية السابقة تقول إن “انقلاب الجنرال نجيب هو نتيجة إلهام حركة شُكلت بدعم من الشيوعيين والإخوان المسلمين. ويهدف إلى تنصيب نظام ثوري معاد للرأسمالية”.
ورغم أن مداولات الاجتماع، الذي رأسه ونستون تشرشل رئيس الحكومة، انتهت إلى أن هذا الطرح “ربما ينطوي على مبالغة”، فإن “به مضمونا يكفي لتبرير وضع القوات البريطانية في المنطقة في حالة تأهب”.
واتفق الوزراء على أنه “من السابق لأوانه تحديد ما إذا كان الجنرال نجيب نفسه يسيطر على الموقف، أو ما إذا كان أداة في يد شخصيات سياسية غير موثوق فيها”.
وعبر الاجتماع عن الخشية من “نشوء تهديد يتمثل في ديكتاتورية شيوعية”. واتفق الوزراء على أنه “حينئذ ربما نؤمن موافقة وإقرار العالم الحر لتدخل يستهدف ضمان قيام نظام ديمقراطي”.
غير أن الوزراء اتفقوا، في الوقت نفسه، على ضرورة التزام الحذر حيث أجمعوا على أنه “طالما أنه ليس هناك خطر على حياة البريطانيين، فإن أي تحرك من جانب القوات البريطانية سوف يُعتبر تدخلا في شؤون مصر الداخلية”.
وكان السادات قد قال في بيان الثورة الأول “أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم”. وأعلن أن “الجيش يعتبر نفسه مسؤولا عنهم”.
نوايا بريطانية وتطمين
وقرر الاجتماع وضع القوات البريطانية المكلفة بالعمل في القاهرة والأسكندرية “في حالة التأهب للتحرك بعد إشعار لا يتجاوز 24 ساعة، إذا تعرضت حياة البريطانيين للخطر”.
كما تقرر وضع القوات في منطقة قناة السويس “في حالة تأهب للتحرك خلال 48 ساعة من صدور إشعار بذلك”، وإبلاغ القائد الأعلى للقوات البريطانية في منطقة البحر المتوسط بأن “يبذل أقصى ما يستطيع لخفض فترة الاستعداد للعمل إلى أقل من 96 ساعة قدر الإمكان”.
وأثير سؤال: هل يجب التواصل مع اللواء نجيب وإبلاغه بالنوايا البريطانية؟
أجمع الوزراء على أنه إذا وضعت القوات في حالة تأهب فعلا، فإنه “ينبغي إخطار الحكومة المصرية”.
واستبعدوا “إصدار إعلان رسمي لنوايانا في هذه المرحلة وتقديمه إلى الحكومة المصرية”.
غير أنه تقرر “إعطاء تطمين غير رسمي للجنرال نجيب عبر القنوات العسكرية بأنه ليست لدينا نية للتدخل ما لم تتعرض حياة البريطانيين للخطر”.
وفي مساء اليوم نفسه، الرابع والعشرين من يوليو/تموز، أبلغ سي جي دي سي هاملتون، الدبلوماسي في السفارة البريطانية في القاهرة اللواء نجيب رسالة من حكومته تتضمن التالي:
•حكومة جلالة الملكة لا ترغب في التدخل في شؤون مصر الداخلية.
•غير أننا سوف نتدخل فورا إذا أصبح هذا ضروريا لحماية أرواح الرعايا البريطانيين.
• أصدرنا تعليمات إلى قواتنا سوف تضعها في حالة استعداد.
•عُلم بيان الجنرال نجيب (الذي قرأه السادات) بخصوص أن الجيش المصري سيكون مسؤولا عن حماية أرواح
الأجانب وممتلكاتهم.
•نأمل مخلصين ألا يكون تدخل القوات البريطانية ضروريا.
•الاستعدادات المشارة إليها ليست بأي حال موجهة ضد الجيش المصري، وسوف تُبذل كل الجهود من جانبنا
لتجنب احتمال وقوع حوادث.
ووفق قرار الحكومة، فقد طلب هاملتون من قيادة الجيش المصري لقاء اللواء نجيب كي “يملي” عليه الرسالة.
والتقى نجيب بهاملتون، وكريزويل القائم بالأعمال، في مقر القيادة في حي العباسية بالقاهرة.
بعد عودة هاملتون إلى السفارة، مزق أصل الورقة التي كتبت فيها الرسالة.
وفق برقية لإدارة المكتبة والبحوث في الخارجية البريطانية، فإن “الرسالة أمليت على نجيب من هذه الورقة”.
ونبهت البرقية إلى أنه “نظرا لأن هاملتون ظن أنه ربما يكون لها أهمية تاريخية، فإنه جمع قطع الورقة مرة أخرى”.
“لا بذرة لديكتاتور”
استمر لقاء نجيب وهاملتون وكريزويل 35 دقيقة، بين الساعة 10.50 دقيقة و11.25مساء الرابع والعشرين من يوليو/تموز.
في تقريره عما دار، قال القائم بالأعمال البريطاني إن نجيب “أجلسنا أمامه وجلس هو خلف مكتبه”.
ووصف اللقاء بأنه كان “وديا” عموما.
وأضاف أن نجيب “بدا وكأنه بشكل ما يدرك ما قد يأتي. غير أنه كان مرتاحا وراضيا بوضوح عندما سمع وقدَّر مضمون الرسالة”.
وسأل الجنرال عن إمكانية حصوله على نسخة من الرسالة، غير أن القائم بالأعمال لم يستجب.
وفي تقريره، قال كريزويل “أمليتها عليه وعلق بظُرف قائلا إن الأمر وكأنه يأخذ درس إملاء في المدرسة”.
ولاحظ القائم بالأعمال أن الجنرال “بدا وكأنه يكتب الانجليزية بسهولة ملحوظة. وبالتزامن مع هذا، كان ضابط آخر، حضر اللقاء مع الجنرال، يكتب ما جاء في الرسالة”.
لم يخل اللقاء من لمسات شخصية، وفق تقرير كريزويل، الذي قال إن نجيب “لم يمعن التفكير في الموضوع، وغير المحادثة إلى دردشة عامة عن أيامه في السودان”.
وعلق الدبلوماسي البريطاني بإبلاغ الجنرال بأنه “يعرف أخاه علي”، فرد عليه “بابتسامة” قائلا إنه “قَبضَ عليه!”.
ومضى كريزويل يقول” تحدث أيضا عن أنه (نجيب) قضى أياما سعيدة في شبابه في الخرطوم وكلية غوردون، وفي الخدمة العسكرية في بحر الغزال وكردفان، وقال إنه حاول ذات مرة ترك الجيش ودراسة الاقتصاد لكنه تخلى عن الفكرة وعاد إلى الجندية”.
وبينما كان الزائران يغادران “شكرهما الجنرال على المجيء، وأكد تعهده بحماية أرواح الأجانب وصيانة القانون والنظام عموما”، ثم أبلغهما بأن علي ماهر باشا “يشكل الآن بالفعل مجلس وزراء، وأنه شكل نواته بالفعل”.
وفي تعليق على سير اللقاء، قال تقرر القائم بالأعمال “لقد ترك الجنرال انطباعا إيجابيا لدينا”.
وأضاف “لم يكن هناك أي ملمح للغطرسة لديه. وهو يتمتع بروح دعابة وبابتسامة ودية….لم يعط، يقينا، انطباعا بأنه يحمل بذرة ديكتاتور يميني أو يساري”.
وذهب كريزويل إلى القول “لوكنت صبيا صغيرا، لأحببت أن يكون عما لي!”.
وفي نهاية تقريره، أبدى القائم بالأعمال الملاحظة التالية: “الأجواء في القيادة كانت هادئة، بدا أن الأمور تسير في جو من الثقة”.
وفي إشارة إلى طرق تغيير نظام الحكم في مصر، قال الدبلوماسي البريطاني إنه “بعد 4000 سنة حدث خلالها مثل هذا الأمر، اعتاد القاهريون تماما على هذا”.
“استعراض بدون فعل”
على الصعيد العسكري، اجتمعت لجنة الأركان المشتركة في يوم 24 يوليو/تموز أيضا بهدف “بحث التدابير اللازمة للحفاظ على موقع بريطانيا في مصر”، بعد تحرك الضباط الأحرار.
وخلال الاجتماع، الذي رأسه الأدميرال سير رودريك مكريغور، قائد السلاح البحرية ورئيس أركانها، قال الجنرال سير براين روبرتسون، قائد القوات البرية البريطانية في الشرق الأوسط، إنه “ينبغي علينا بالطبع اتخاذ كل التدابير اللازمة لتأمين موقعنا في منطقة القناة ولحماية أرواح المواطنين البريطانيين في الدلتا. وفعل هذا هو بوضوح في إطار حقوقنا”.
ونصح الجنرال بالتمييز بين “اتخاذ تدابير تحقيق هدف سياسي، كمنع تحول السلطة إلى الشيوعيين في مصر”، والتحركات العسكرية.
وقال إنه قد يكون ضروريا تماما اتخاذ إجراء لمنع سقوط مصر في أيدي الشيوعيين. غير أنه نبه إلى أنه “لا مجال لاتحاذ مثل هذا الإجراء ما لم نحصل على مساندة الولايات المتحدة الكاملة”.
وحذر من عواقب أي “استعراضات” للقوة “إن لم يكن إسنادها بفعل ممكنا”.
وقال “مالم نكن مستعدين لاتخاذ إجراء، هناك خطر أن خدعتنا سوف تنكشف ولن يتحقق أي شيء باستثناء أن تهديداتنا سوف تكشف عداء”.
ويكشف تقرير بالغ السرية عما دار في اللقاء حيث قال خلاله السير نيفيل براونغون، ممثل قائد الأركان العامة الإمبراطورية، إنه “من المهم أن نحرص على الإبقاء على أكبر قدر من التعاملات الودية مع الجيش المصري”.
وأوصى بأنه “من المستحسن أن نقوِّي الجنرال نجيب، ونسانده”.
وناقش الاجتماع السلطات التي ينبغي أن تُمنح لقائد القوات البريطانية في الشرق الأوسط للتحرك من تلقاء نفسه في ظل التطورات في مصر.
وأجمع المشاركون في الاجتماع على ضرورة أن يعود قادة القوات، إن أمكن، إلى وزير الدفاع قبل اتخاذ أي اجراء. غير أنهم قرروا أنه “في حالة نشوء حالة طارئة وخطيرة، ينبغي أن تكون لديهم صلاحيات اتخاذ إجراء لضمان أمن قواتهم، وهم في الواقع ملزمون بضمان سلامة رجالهم مهما كانت السلطات الممنوحة لهم”.
بعد مرور عامين وأربعة شهور، نجح جمال عبد الناصر في التخلص من الجنرال نجيب ليبدأ فصلا جديدا من الصراع العدائي بين نظام ناصر وبريطانيا.