في البحث حول ملامح مفهوم “التسخير” في كتاب الله الكريم، وصلنا خلال الأحاديث السابقة إلى أن تسخير الأشياء والظواهر الكونية؛ يأتي لمصلحة الإنسان. وضمن هذه الظواهر، التي سَخَّرَها الله سبحانه وتعالى، يأتي تسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر”.
والواقع.. أن اهتمامنا بمسألة تسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر” وتخصيص حديث خاص به؛ لا يعود فقط إلى أن تسخير “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ” إشارة إلى إعداد الكون كميًا ليُناسب وجود الإنسان؛ مثلما أن تسخير “اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” إشارة إلى إعداده كيفيًا لذلك؛ هذا فضلًا عن الارتباط البَيِّن في التنزيل الحكيم، في أكثر من موضع بين خلق “السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ”، وتسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر” ولكن أيضًا إضافة إلى هذا وذاك، لارتباط تسخيرهما بـ”أَجَلٍ مُسَمًّى”.. وهو الارتباط الذي ورد في “أربعة” مواضع في آيات التنزيل الحكيم.
ولنا هنا أن نلاحظ بداية، أن تسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر” لا يتوقف عند حدود دوام حركة كل منهما والاستمرار فيها؛ ولكنه يتجاوز ذلك إلى الهدف الإلهي من هذا التسخير. يقول عزَّ من قائل: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” [يونس: 5]. إذ.. هاهنا يتبدى الهدف الإلهي بوضوح، من حيث إن الله سبحانه وتعالى “هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا”. فإذا كانت هذه “الشَّمْسُ” قد جعلها الله سبحانه “ضِيَاءً”؛ فإنه تعالى قد جعل “الْقَمَرَ… نُورًا” وأيضًا “َقَدَّرَهُ مَنَازِلَ” لأجل أن يعلم الناس “عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ”.
وإذا كان الحديث عن تسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر” وارتباط تسخيرهما بـ”أَجَلٍ مُسَمًّى” يأتي في “أربعة” مواضع في آيات التنزيل الحكيم؛ وأنه يأتي في واحد من هذه المواضع مصحوبا بحرف الجر “إلى” في حين يأتي في المواضع الثلاثة الأخرى مصحوبا بحرف الجر “اللام”؛ فإن ذلك يعني أن ثمة اختلاف في تعدية الفعل “يَجْرِي” بحرف الجر “إلى”، وبين تعديته بحرف الجر “اللام”؛ ويؤكد أن ثمة اختلاف في الدلالة بين التعبير القرآني: “وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى” [لقمان: 29]، وبين التعبير القرآني: “وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى” [الزمر: 5؛ فاطر: 13؛ الرعد: 2].
وفي الحديث عن التعبير الأخير، وصلنا في الحديث السابق إلى أنه في قوله سبحانه وتعالى: “خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ” [الزمر: 5]؛ فإن مفتتح الآية الكريمة هو “خَلَقَ”، أي البداية “خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ”؛ ولذا جاءت تعدية الفعل بحرف “اللام” فقال سبحانه: “يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى”، لأن الحديث هنا عن البدايات.. عن “خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ” (بـ”تسكين” اللام في “خَلْقَ”).
الخلق والأجل
وهنا أيضا يبدو الفارق بوضوح بين تعبير “لِأَجَلٍ مُسَمًّى” عند الحديث القرآني عن البدايات، عن الـ”خَلْقَ”؛ وبين الحديث القرآني عن المصير والانتهاء، التي يرد عندها تعبير “إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى”، كما في سياق الآيات الكريمة في سورة [لقمان: 26-34]، السياق الدال على غاية ما ينتهي إليه الـ”خَلْقَ”.
ولعل ذلك ما يتأكد عبر قوله سبحانه: “يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ” [فاطر: 13]. وهنا لنا أن نلاحظ أن ثلاثية العطف في سياق الآية الكريمة “يُولِج… وَيُولِجُ… وَسَخَّرَ”، تُرد إلى الله سبحانه وتعالى “ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ” ومن ثم يأتي سياق الآية ليُعبر عن الخالق، من حيث إنه سبحانه له القدرة على “الخلق” و”الإيلاج” و”التسخير” وله المُلك في الوقت نفسه.
ولأنه سبحانه له المُلك كله، فإن له أيضا العبادة كلها بدليل “وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ”. ومن المعروف، أن “قِطْمِيرٍ” هي “القشرة الرقيقة بين الثمرة والنواة التي في داخلها.. وهو ما يتكامل مع قوله تعالى: “قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ٭ مَلِكِ النَّاسِ ٭ إِلَهِ النَّاسِ” [الناس: 1-3] حيث ذكر الرب والملك، ورتب عليهما كونه إلها معبودا. ولنا أن نؤكد هنا على أن آيات سورة [الناس: 1-3] هي وحدة واحدة متكاملة ليس بينها أية فواصل، أو أيٍ من حروف العطف “رَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ”.
أضف إلى ذلك، أن السياق العام الذي وردت فيه آية سورة [فاطر: 13] أي سياق الآيات الكريمة التي تسبقها، تتحدث عن “الخلق”؛ ولذا جاءت تعدية الفعل “يَجْرِي” بحرف “اللام” وليرتبط الحرف بـ”أَجَلٍ مُسَمًّى” فقال سبحانه: “يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى” لأن الحديث هنا عن البدايات عن الـ”خَلْقَ”.
والسياق المشار إليه، هو قوله سبحانه وتعالى: “وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ٭ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٭ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ” [فاطر: 11-13]. وكما نلاحظ، فإن مفتتح الآيات هو “وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ…”.
ويتبقى، في المواضع الثلاثة التي يرد فيها تعبير “يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى”، قوله تعالى: “اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ” [الرعد: 2]. ومثلما كان سياق الآيتين السابقتين يُشير إلى البدايات، بدايات الـ”خَلْقَ” فهنا أيضا يُؤشر السياق إلى البدايات، ولنلاحظ حرف العطف “ثُمَّ” الذي يدل على الفترة الزمنية الطويلة نسبيًا بين “رَفْع” السموات والأرض.. و”الاستواء” على العرش و”تسخير” الشمس والقمر. ولذا نُعيد ونُكرر بأن تعدية الفعل “يَجْرِي” بحرف “اللام”، جاءت ليرتبط الحرف بـ”أَجَلٍ مُسَمًّى”، فقال سبحانه: “يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى”، لأن الحديث هنا أيضا عن البدايات.. عن بدايات الـ”خَلْقَ”.
كما لنا أن نُضيف ملاحظة أخرى، تتعلق بـ”بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا”؛ إذ إننا نكون أمام احتمالين:
الأول، أن يُحمل الكلام على ظاهره، كما يقول البعض، ويكون “تَرَوْنَهَا” صفة لـ”عَمَدٍ” ومن ثم، يكون للسموات عمد ولكنها غير مرئية.. والثاني، وهو الأرجح لدينا، أن دلالة لفظ “عَمَدٍ” تُشير إلى “الشيء الذي يمكن الاعتماد عليه”؛ وبالتالي، يكون سبحانه قد: “رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا”، تعني: أن السموات لها “عَمَدٍ” هي قدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره؛ ولأن قدرته سبحانه تُرى في آثارها، وليس في ذاتها، لذا فإننا لا نراها، أي لا يمكن رؤية القُدرة، بل ما يمكن رؤيته هو آثار هذه القُدرة، أي “رَفْع السموات”.
وهذا التعبير القرآني “بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا”، لم يرد على امتداد آيات التنزيل الحكيم، إلا في موضعين اثنين: الأول، يُصاحبه لفظ “رَفَعَ” في سورة [الرعد: 2]؛ والآخر، يرتبط فيه بلفظ “خَلَقَ” في قوله سبحانه وتعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ٭ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٭ خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ” [لقمان: 8-10].
ويتبقى التساؤل: إذا كان التسخير يختص بـ”الظواهر الطبيعية”، لأجل الإنسان وتمكينه من مباشرة مهامه التي خلقه الله سبحانه وتعالى من أجلها، أن يكون “فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” [البقرة: 30].. فماذا عن تسخير “الْبَحْرَ” و”الْفُلْكَ” و”الْأَنهَارَ”؟
وللحديث بقية.