رؤى

قانون التــــــــآكل.. وأوهام البقاء!

كل شيء حولنا يتآكل. نحن البشر أنفسنا نتآكل. ولا جديد فهذه بديهية. فالتآكل حتمي ومقدمة لا بد منها  للضعف قبل الموت. غير أن العلم بتلك البديهية البسيطة ليس ضامنا للعمل بمقتضاها. فالبشر كثيرا ما يتجاهلون ما يتعلموه وما يعلموه. ندرك أننا نضعف لكن لا نكف عن الصراع على القوة. نوقن أننا سنموت لكننا نتكالب على الحياة. ولا خطأ بالمرة في اكتساب القوة والتمتع بالحياة، إنما الخطأ في طريقة استخدام القوة وكيفية إدارة الحياة. وقد كتبت هذه الخاطرة لنفسي لعل تذكير الذات بالتآكل يساعدني على الحذر من أوهام القوة، والتسامي في ما تبقى لي في الحياة.

التآكل حاصل حتما سواء اعترفت أم تناسيت. هو قانون لا مهرب منه يعمل منذ الأزل، بل وشرط مسبق للوجود نفسه. فكل موجود جديد يحتاج إلى فراغ يشغله. ولولا التآكل لما كانت كل تلك الفراغات الجديدة قد أتيحت لنا ولكل المخلوقات من حولنا. يختفي بشر ليظهر بشر. ويذبل شجر لينبت شجر. ويتفتت حجر ليتكون حجر وهكذا. الكل يحكمه قانون التآكل، والأفضل ألا ننساه، لكي نقدر من ناحية نعمته لأنه ما كان لأحد منا أن يُخلق لولا هذا القانون، ولنحترم من ناحية ثانية صلابته لأن من لا يتقبل هذا القانون طواعيةً سيفرض عليه قسرا.

لولا التآكل ما كان الفناء. ولولا الفناء ما كان الفراغ. ولولا الفراغ ما كان تجدد الوجود. إنها دائرة  محكمة بين حلقات متصلة تظل تعمل طالما ظل قانون التآكل يعمل. فلولا هذا القانون لما ظهرت مخلوقات جديدة ونباتات جديدة ولغات جديدة وزعامات جديدة وثقافات جديدة وحكومات جديدة، بل وحضارات ونظم دولية جديدة.

ومع أن التآكل قانون، إلا أن الإنسان أحيانا ما تحداه أو في أحيان أكثر تجاهله واستخف به. فقد تحداه عندما حلم بخلود وديمومة دفعتاه إلى البحث عن أكسير للحياة يوقف التآكل ويمنع الموت. وما يزال الطب إلى اليوم يدغدغ مشاعر البشر ويبيع لهم وهم “الإنسان اللا متآكل” يعدهم بحلول تقضي على الشيخوخة والضعف وتخلصهم من التآكل والموت. فإذ ما تعطل في جسد المرء عضو أو تلفت فيه خلية ما عليه إلا أن يتوجه لأقرب مختبر ليستبدلها. غير أن من يتحدون قانون التآكل يبقوا أقل ممن يستخفون به ويتجاهلونه.  ولا أحتاج إلى أرقام، فالشاهد للعيان أن أغلب الناس يعيشون بدفع تام من غريزة البقاء التي تدفعهم للصراع  وتصور لهم أنهم سيعيشون أبدا.

وإذا كان الناس يستخفون بعبرة التآكل الذي تتعرض له أجسادهم، فإن الأسوأ من ذلك تجاهل من تحملوا دفة الحكم للتآكل الذي ينخر الجسد السياسي والسلطة القائمين عليهما. فبرغم أن السلطة تبدأ في مخاصمة من ظفر بها من اليوم الأول، إلا أن كثيرا منهم يتصورون أنهم استثناءات ويعتقدون أن التآكل لن يطالهم أو يهدد سلطاتهم. تجد مسئولا وهو يتشبث بالسلطة فلا يتزحزح عنها برغم كره الناس له. تجده لا يعترف بخطأ أو يقر بمسئولية أو حتى يلحظ ما أصاب حكمه من ضعف وهشاشة إلى أن تأتيه لحظة الفراق المرعبة التي لطالما يختزنها الزمن للمستبدين عندما تقتلعهم شعوبهم وتلقي بهم في صفحة التاريخ السوداء. لكن  الإنسان السياسي لا يشبع. لا من سلطة أو ذهب أو مال أو جاه أو نفوذ. يتجاهل التآكل فيظل يجمع من القوة ما يعتقد أنها تعضده دون أن يدرك أنه يحمل على عاتقه أعباء تقضي عليه.

إن المرء منا يتآكل مرتين. مرة بفعل قوانين الطبيعة. ومرة ثانية بسبب تصوراته القاصرة وأوهامه الطائشة. أما قوانين الطبيعة فترمي بنا منذ الطفولة في طريق الشيخوخة. نضعف ونتآكل سنة بعد سنة. نحاول الصمود ونتفنن في التحايل إلا أننا في النهاية نقر بالاستسلام والقبول. وأما تصوراتنا القاصرة عن “اللا تآكل” فخطيرة للغاية لأنها هي التي تنسج لنا خرافات الشباب المتجدد التي نلهث وراءها وننفق من أجلها ملايين؛ آملين في خلود ليس له في هذه الحياة الدنيا وجود.

آه لو حرر الإنسان نفسه من تلك الأوهام. آه لو عزز إيمانه بالتآكل. سيصبح أسعد حالا فالعلم بالتآكل؛ بل وتنمية الإحساس اليومي بالتآكل أمران مهمان لكي يُحصن الإنسان نفسه من خرافة القوة الأبدية وسخافة الإنسانية المطلقة.

صحيح أن الإنسان قوي ولا شك في ذلك. لكن قوته مؤقتة. وصحيح أنه يملك. لكن ملكيته  انتقالية لا أبدية. وصحيح أن لديه قدرات لا يستهان بها. لكنها مقيدة دوما بسقف وحدود. ومع ذلك، ينسى معظم الناس قانون التآكل ويتغافلون عن أنه يعمل على مدار الساعة.

الشجاع فقط هو الذي يعترف بالتآكل. وليت كل الناس شجعانا.. ليتهم يعترفون بقانون التآكل ويقبلون به؛ حتى لا يخوضون معارك أكبر من حجمهم أو لا تخصهم أو يأملون من ورائها في أكثر مما يناسبهم؛ لكن الشجعان قلة. الغالبية ما زالت تنسى، بل وتتناسى قانون التآكل في حياتهم الشخصية، فيتصور ابن الستين  سنة مثلا أنه ابن عشرين. كما يتناسون قانون التآكل في نظمهم الجماعية فلا يلتفتون مبكرا للتآكل  الاجتماعي إلا بعد أن تستطير شروره فترتفع معدلات الجريمة والطلاق والعنف. ولا ينتبهون إلى التآكل السياسي إلى أن تقع مصائب. ويهملون التآكل الاقتصادي إلى أن تتفاقم أزمات تهددهم في لقمة العيش.

يبقى أن تآكل الإحساس بالتآكل، وتآكل الرغبة في مكافحة التآكل، وتآكل العمل ضد التآكل هي أسوا أشكال التآكل قاطبة إذ تدل على فقدان الوعي بالمخاطر وعدم الاستعداد لاتخاذ ما يلزم حيالها من خطوات.  وهو ما تعيشه بكل أسف بعض الأمم مثل أمتنا التي تآكلت منذ قرون لكنها تتصابى برش كلمات منمقة عن  نفسها لعلها تجمل وجهها بين الأمم. كل الأمم تتعرض للتآكل. لكن الأمم الشجاعة هي التي تنمي وعيها بالتآكل وتنمي رغبتها في مكافحته وقدرتها على مقاومته. ومع ذلك إن سلمت لمدى بعيد إلا أنها لن تسلم إلى أبد الدهر لأن قانون الأمم مشتق من قانون التآكل. فالأمم تصعد وتهبط، لكنها في النهاية بعد أن تولد  وتكافح  لا بد أن تموت.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock