منذ العام 1967، وسلطات الاحتلال الصهيوني تعمل على بسط سيطرتها، على كامل الأراضي الفلسطينية، عبر اتباع سياسة المصادرة والتوسع الاستيطاني، وتحديدا في الضفة الفلسطينية، مع اعتماد سلسلة من السياسات الهادفة إلى تضييق الخناق على سكانها الأصليين؛ بهدف تهجيرهم وطردهم من أرضهم.
وتضاعفت عمليات سرقة أراضي الضفة الغربية، بعد توقيع اتفاقية أوسلو التي نصت فيما يتعلق بتقسيم أراضي الضفة على التالي:
تعترف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة “إسرائيل” (على 78% من أراضي فلسطين، أي كل فلسطين ما عدا الضفة الغربية وغزة)، وخلال خمس سنوات تنسحب إسرائيل من أراضٍ في الضفة الغربية وقطاع غزة، على مراحل أولها أريحا وغزة اللتان تشكلان 1.5% من أرض فلسطين التاريخية، وقد أنشأ اتفاق أوسلو الثاني ثلاثة أقسام إدارية مستقلة “مؤقتة” في الضفة الغربية، وهي المناطق “أ” و “ب” و “ج”، لحين الاتفاق على وضع نهائي لهذه الحالة.
وهذه المناطق الثلاث غير متجاورة، ولكنها مجزّأة حسب المناطق السكنية المختلفة، والمتطلبات العسكرية “الإسرائيلية”.
المنطقة “ج” أو “c” كما أصطلح على تسميتها، هي أكبر مناطق الضفة الغربية المنصوص عليها في اتفاقية أوسلو الثانية، حيث تشكل تلك المنطقة حوالي 61% من أراضي الضفة الغربية، وحسب الاتفاق فإن السلطة الفلسطينية مسئولة فقط عن تقديم الخدمات الطبية والتعليمية للفلسطينيين في المنطقة، بينما السيطرة على الجوانب الأمنية والإدارية والقانونية هي لإسرائيل وحدها.
وتعد المنطقة المصنفة “ج” هي مربع الاستهداف الأبرز في عمليات تهجير الفلسطينيين، التي تعتمدها سلطات الاحتلال، ومن أجل تحقيق هذه الغاية، عمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى اتخاذ قرارات متتالية، بمصادرة أراضي المواطنين الفلسطينيين، وبناء المزيد من المستوطنات، وخصصت المزيد من الميزانيات والمنح والامتيازات لأجل خلق واقع جديد، تنتفي بمقتضاه إمكانية التوصل إلى حل تستعاد بموجبه تلك الأراضي.
حسب بيان صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في شهر آذار 2023، بلغت مساحة مناطق نفوذ المستوطنات “الإسرائيلية” في الضفة الغربية، في نهاية عام 2022، نحو 537 كم2، وتمثل ما نسبته حوالي 10% من مساحة الضفة الغربية؛ فيما تمثل المساحات المصادرة لأغراض القواعد العسكرية، ومواقع التدريب العسكري حوالي 18% من مساحة الضفة الغربية بواقع 1,016 كم2، بالإضافة إلى جدار الضم والتوسع الذي عزل أكثر من 10% من مساحة الضفة الغربية، وتَضَرُّر ما يزيد على 219 مدينة وقرية فلسطينية.
ويبلغ طول الجدار حوالي 714 كم؛ كما صادرت سلطات الاحتلال الاسرائيلي منذ 1967، حوالي 353 ألف دونم (يساوي 1000م2) من الأراضي الفلسطينية وصنفتها “محميات طبيعية” تمهيدا للاستيلاء عليها.
كما أسلفت.. فإن المنطقة “ج” تُشكِّل حوالي 61٪ من أراضي الضفة الغربية المحتلة، والسلطة الفلسطينية المكبلة باتفاقيات أوسلو، تسعي وتطالب بإعادة السيطرة على أجزاء تلك المنطقة الواسعة، بوصفها جزءا من بناء الدولة الفلسطينية حسب الوعود الأمريكية والدولية.
وبالعودة إلى اتفاقية أوسلو كان مفترضا أن يكون عام 1999، نهاية المرحلة الثانية من عملية السلام والبدء في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية، بما فيها مدينة القدس الشرقية وقطاع غزة، لكن الاستيطان الإسرائيلي في الضفة والقدس، والذي تضاعف مرات عديدة منذ انطلاق عملية السلام، يَحُولُ فعليا دون إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة ومستدامة.
السلطة أدركت بعد فوات الأوان أن اتفاقية أوسلو تحتاج – حسب المنطق الصهيوني – إلى عشرات الاتفاقيات المنفردة وجولات من الحوارات الطويلة، التي لا طائل من ورائها، والتي لن تحصد من ورائها سوى خيبات الأمل المتلاحقة، ولكنها – ورغم كل النكسات – لازالت تراهن على هذا المسار الوهمي.
في المقابل، تعمل الحكومة “الإسرائيلية” وبخطط مبرمجة على إفراغ تلك الاتفاقية -رغم مساوئها- من أي بارقة أمل، للتوصل إلى اتفاق يضمن قيام دولة مستقلة على أقل من 20% من أرض فلسطين التاريخية.
حكومات الاحتلال المتعاقبة عملت منذ توقيع اتفاقية أوسلو وما قبلها، على سياسة طرد ممنهج للفلسطينيين من المنطقة “ج” استعدادا لعملية الضم، وهذا المخطط الجهنمي الذي يقوده الآن اليمين الصهيوني بشقيه اليمين الليبرالي واليمين الصهيوديني القومي بزعامة سموتريتش وبن غفير، إذ ينظرون إلى المنطقة “ج” باعتبارها مساحة أساسية للاستيطان والأمن اليهوديين، وتشكل الضفة الغربية حسب المفهوم الديني للصهيونية الأساس التوراتي التي قامت عليه فكرة إنشاء “وطن قومي لليهود في فلسطين”.
وفي ظل هذا الصراع السياسي والدبلوماسي المحتدم بين السلطة الفلسطينية الضعيفة، والتي لم يتبقى لديها أية أوراق قوية لفرض رؤيتها، بعد أن نبذت الكفاح المسلح- والحكومة الصهيونية التي تعمد على تخريب أي جهد عربي أو دولي، لإيمانها المطلق أن اقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقدس وغزة “حدود 67” هو أول مسمار في نعش دولة الاحتلال، ولذلك قامت دولة الاحتلال بمضاعفة عمليات القضم التدريجي للأرض الفلسطينية في المنطقة “ج”، حتى لا تُبْقِي أي أمل لأي حل سياسي مستقبلي، يتضمن انسحاب “اسرائيلي” من كامل أراضي الضفة الغربية.
السيطرة على المنطقة “ج” – من وجهة نظر دولة الاحتلال- لا يمكن السماح به، فلا يمكن أن تكون المنطقة “ج” بكاملها جزءًا مركزيًا وحيويًا من الدولة الفلسطينية، لما تحتويه من (مناطق زراعية واسعة، وحدود مع الأردن، وموارد طبيعية، ومناطق بنية تحتية هامة وخلافه)، ولذلك فإنه وحسب اتفاقية أوسلو (المحبوكة إسرائيليا) لأهداف بعيدة المدى، قسمت الضفة إلى ثلاث مناطق غير متصلة، أكبرها المنطقة ج التي اتفق أن تبقى تحت السيطرة الإدارية والأمنية “الإسرائيلية” بالكامل، وهي تضم المستوطنات اليهودية الكبرى والبؤر العشوائية.
يقطن في المنطفة “ج” أكثر من نصف مليون مستوطن، وهي موزعة على أكثر من 150 نقطة استيطانية، بما في ذلك البؤر الاستيطانية غير “الشرعية”.
ويقطن في نفس المنطقة “ج” أكثر من مِئَتي ألف فلسطيني، موزعين على أكثر من 530 مدينة وبلدة وقرية، يمتلك الفلسطينيون من المنطقة “ج” فقط ربع تلك الأراضي، 5% للمؤسسات والمساكن وحوالي 20% للأنشطة الزراعية والرعي (هآرتس).
ولكل ذلك تعمل الحكومة “الإسرائيلية” الحالية – من الناحية الاستراتيجية – على بسط سيطرتها على معظم المنطقة “ج”، لتوسيع المستوطنات وإنشاء مستوطنات جديدة (شُرْعِنَت عشر بؤر استيطانية كانت قد فككت سابقا)، لتهيئة الظروف لمرحلة تطبيق السيادة الإسرائيلية الكاملة، على المنطقة “ج”، عملت الحكومات الصهيونية المتعاقبة يمينها و”يسارها” ولا زالت تعمل على افشال أية مبادرات مستقبلية، لإمكانية تحقيق حل على أساس الدولتين، حسب المبادرة العربية للسلام، أو حتى حسب اتفاق أوسلو الهزيل، وذلك تحقيقا للأهداف الصهيونية التوراتية بأن أرض “يهودا والسامرة” الضفة الغربية هي قلب الوطن اليهودي، وإن التنازل عن أي جزء منها هو خيانة كبرى لا تسامح معها (تصريح الحاخام الأكبر لدولة الاحتلال).
الفكرة الرئيسة التي تروج لها الحكومة الحالية وسموتريتش تحديدا هي عملية “الضم الزاحف”، تحت وفوق الرادار، ويعكس ذلك السياسة الصامتة والحثيثة بتوسيع المشروع الاستيطاني من خلال “تنظيم المستوطنات الفتية”، أي الاعتراف القانوني بالبؤر الاستيطانية غير “القانونية”، وبعد استكمال عمليات الطرد والضم، حسب خطة سموتريتش، لا يبقى أمام الفلسطينيين سوى خيارين لا ثالث لهما: الهجرة إلى الدول العربية، أو الاستسلام تحت الحكم “الإسرائيلي” في الكانتونات المتمتعة بالحكم الذاتي كمقيمين غرباء بدون حقوق.
إن تنفيذ سياسة الحكومة “الإسرائيلية” فيما يتعلق بالمنطقة “ج” والعمل الجاري على ضمها إلى دولة الاحتلال يضع الكيان الصهيوني أمام خطر الانزلاق إلى واقع “الدولة الواحدة” حسب رؤية معهد بحوث الأمن القومي الصهيوني، لأن الضم الفعلي للمنطقة يعني إحباط أية فرصة للتسوية السياسية أو تحقيق الانفصال المؤدي لحل الدولتين، والبديل الوحيد القائم هو حل الدولة الواحدة ثنائية القومية، المرفوض إسرائيليا “من منطلق عقائدي”، فهي لا تعترف أصلا بوجود الفلسطينيين وحقهم في تقرير المصير، والفكرة الصهيونية قامت على أساس أن “اسرائيل الكبرى” دولة يهودية لليهود فقط، عمليا.. حل الدولة الواحدة ثنائية القومية أمر مرفوض تماما لإسرائيل، لأنه يشكل خطر وجودي على “اسرائيل” أمام التفوق الديموغرافي للفلسطينيين”.
إن الكيان الصهيوني يعمد إلى تخريب أية إمكانية للانفصال والانسحاب من المنطقة “ج” إدراكا منه إنه في حال انسحبت اسرائيل من المنطقة “ج” وتخلّت عنها لصالح السلطة الفلسطينية فإن الكيان سيكون أمام جملة من المحاذير الخطيرة التي ستجعله يرفض مجرد التفكير في الانسحاب من كامل المنطقة “ج”، وهذه المحاذير كما أوردتها صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية، ليست موقف الأحزاب المتطرفة فقط، ولكنها أيضا مواقف باقي الأحزاب الصهيونية وأيضا توصيات من مراكز ومعاهد البحوث والدراسات الأمنية في الكيان والمحاذير هي:
1. إن قيام دولة فلسطينية – ذات تسلسل إقليمي متصل- ستكون رابطا بين أراضي الدولة الفلسطينية والأردن، وإسرائيل تخشى من أن أي تغيير في النظام الأردني؛ ليس في غير صالح إسرائيل.. وبالتالي سيعمل هذا الربط على فتح جبهة شرقية معادية.
2. الدولة الفلسطينية ستكون بالقرب من شرايين الحياة الرئيسية لإسرائيل، وهذا يعني سيطرة فلسطينية على المناطق الأمنية ومواقع الجيش المهمة.
3. الإضرار بالتوسع الاستيطاني من خلال قطع التسلسل الاستيطاني الإسرائيلي وعزل المستوطنات في جيوب وكانتونات محاطة بالعرب.
4. الاستيلاء على الأصول (احتياطيات الأراضي الزراعية، والموارد الطبيعية والمياه، والمناطق الخاضعة للرقابة الاسرائيلية).
5. الاستيلاء على الطرق الرئيسة ومنع الحركة الإسرائيلية في المنطقة – تمزيق نسيج حياة المستوطنين- والتضييق عليهم.
6. حرمان إسرائيل من الأصول الأمنية (مواقع استراتيجية ومحاور استراتيجية) في حال تغير الوضع الأمني.
7. تعطيل الأمن الإسرائيلي وحرية العمل في المنطقة ضد المنظمات المناوئة، التي ترفض الاعتراف بوجود “إسرائيل. (معهد بحوث الأمن القومي)
لذلك فإن حكومة اليمين الحالية، وحتى حكومات شبه اليمين، لا يمكن أن توافق على الانسحاب بالكامل من تلك المنطقة المسماة “ج” عبر المفاوضات أو الوسائل السلمية للاعتبارات المذكورة، وتعمل ليل نهار على تقويض حل الدولتين، وأيضا الرفض المطلق لحل الدولة الواحدة ثنائية القومية.
إن دولة الاحتلال وفي سعيها المحموم للسيطرة الكاملة على أجزاء كبيرة من أراضي الضفة الغربية (الضم الزاحف)، ورفضها الانسحاب إلى حدود عام 67 حسب نصوص القرارات الدولية، ستعجل بالتأكيد من المواجهة القادمة ما بين الكيان الغاصب ومحور المقاومة ورأس حربته فصائل المقاومة الفلسطينية، والتي عليها أن تكون مستعدة لما هو قادم.
************************************
*كاتب ومترجم مختص بالشأن الصهيوني/ غزة – فلسطين المحتلة