يعرف آلان رومسي إيديولوجيا اللغة بأنها: “مجموعة من المفاهيم الدارجة حول طبيعة اللغة في العالم”. ويرى كروسكريتي أن هذا التعريف غير مُرْضٍ، لأنه “يفشل في التأطير لإشكالات التباينات الإيديولوجية للغة، وبالتالي يُعزز رؤية متجانسة عن الإيديولوجيات اللغوية خلال المجموعة الثقافية”.
يؤكد مايكل سيلفرستين على دور وعي المتحدث في التأثير على بنية اللغة، ويُعرِّف الإيديولوجيا اللغوية بقوله إنها: “مجموعة من المعتقدات حول اللغة، يصيغها المستخدم، بوصفها تبريرات عن بنية اللغة المتصورة واستخدامها”.
كما تشمل التعريفات التي تؤكد على العوامل الثقافية الاجتماعية وصف شيرلي هيث لإيديولوجيا اللغة بأنها “أفكار جلية، وأهداف يؤمن بها عدد من الناس، تخص أدوار اللغة في التجارب الاجتماعية لأعضائها، عندما يساهمون في التعبير عن الجماعة” بينما يعرِّف جوديث إرفين المفهوم باعتباره “نظاما ثقافيا” من الأفكار عن العلاقات اللغوية والاجتماعية، بمضمونها الأخلاقي والسياسي من الاهتمامات. بذلك تشكل إيديولوجيا اللغة مجموعة الآراء والمعتقدات والأفكار التي تتمحور حول اللغة والتي تنتشر بين أفراد المجتمع الذين يمكنهم توظيفها للتأثير في السياسات العامة للدولة بهدف المحافظة على الوضع الراهن، أو بهدف تغيير هذا الوضع في اتجاه آخر.
وفيما يتعلق بالمقاربات النظرية لدراسة إيديولوجيا اللغة نجد أنها تنقسم إلى مقاربتين أساسيتين: المقاربة النقدية والمحايدة؛ حيث تنص المقاربة المحايدة على أن معتقدات المتحدث وأفكاره عن اللغة تتشكل بالنظم الثقافية المنغمس فيها، دون محاولة التعرف على التباينات خلال هذه الأنظمة أو عبرها. وبالتالي سيكشف عن إيديولوجيا واحدة في تلك الحالات غالبا، ومن الأمثلة الشائعة على المقاربات المحايدة لإيديولوجيا اللغة، وصفها بأنها ممثلة لمجتمع كامل أو ثقافة، مثل تلك المدرجة في البحوث الإثنية. بينما تسعى المقاربة النقدية إلى الكشف عن قدرة اللغة والإيديولوجيا اللغوية، في توظيفها كاستراتيجيات تحافظ على السلطة الاجتماعية والهيمنة، حيث تصف كاثرين وولارد وبامبي شيفلين هذه المقاربات باعتبارها دراسات عن بعض جوانب التمثيل والإدراك الاجتماعي، بأصول اجتماعية معينة أو صفات وظيفية وشكلية. تنتشر تلك الدراسات في مناقشات سياسة اللغة والتداخل بين اللغة والطبقة الاجتماعية، والصراع الإيديولوجي والاجتماعي.
يطرح عدد من الأكاديميين أن الإيديولوجيا تلعب دورا في تشكيل البنية اللغوية والتأثير عليها، وتكوين أشكال الحديث. يرى مايكل سيلفرستين أن وعي المتحدث باللغة وتبريراته عن بنيتها واستخدامها يلعبان دورا حرجا في تشكيل بنية اللغة وتطورها. وطبقا له، تمهد إيديولوجيا المتحدث عن اللغة إلى التباينات الحادثة، بسبب الوعي المحدود ببنى اللغة، ما يؤدي إلى تنظيم أي تباين مبرر بأي إيديولوجيا سائدة أو منتشرة ثقافيا. حيث ينتشر في اللغة الإنجليزية على سبيل المثال ضمير المذكر هو (He)، على سبيل المثال، للاستخدام العام دون معرفة جنس المتحدث، وقد فُهم هذا الاستخدام على أنه رمز للمجتمع الذكوري الأبوي، وارتفعت الأصوات المعارضة لهذه الحالة مع صعود الحركة النسوية، للمطالبة بالكف عن استخدام (He) لصالح (He or She) وتعني “هو أو هي”. بُرر رفض “هو العامة” بالرغبة المتصاعدة لتحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، بعد أن عمت تلك الحركات ثقافيا بما يكفي لإحداث هذا التغيير.
وفيما يتعلق باللسانيات الاستعمارية التي تحمل مضامين إيديولوجية. فقد أكد نبريجا عالم النحو الإسباني الذي عاش في القرن السادس عشر بأن “اللغة كانت رفيقة الإمبراطورية على الدوام”، وهناك بعض الأبحاث الحديثة المثيرة حول إيديولوجيا اللغة تتبع بشكل واضح وجود صلات بين الأشكال اللسانية والإيديولوجية والاجتماعية، ومعظم هذه الدراسات تصدر عن دراسة الظاهرة الاستعمارية. إذ لم يكن واضحا دوما أي لغة كانت تستخدم في الإدارة الاستعمارية، ذلك أن لكل اختيار دوافعه الإيديولوجية المستترة ونتائجه العملية، فعلى سبيل المثال قد تختار لغة المستعمرين لهجة بعينها ضمن نسخ مشوهة غير محلية أو أهلية؛ فيغدو تكلم اللهجة بطريقة كارثية. كما اقتضى التنصير والاستعمار الأوروبي لقارات أخرى السيطرة على المتكلمين وعلى لهجاتهم.. ولقد عالج بحث حديث حول الوصف والترجمة اللسانية الاستعمارية البعد الإيديولوجي للمعاجم والنحو وكتب اللغة والتوضيحات، تلك التي ظُن لزمن طويل، أنها أعمال علمية محايدة، بينما كانت عملا سياسيا محضا.
وفي المقابل يسميه مينجولو (استعمار اللغة)، حيث استقدم الأوروبيون لإنجاح مهمتهم أفكارا شائعة عن اللغة في المركز الحضري، وهذه الافكار التي هي نفسها تتغير في لحظات تاريخية مختلفة، أعمتهم عن المفاهيم الأهلية والتدريبات اللسانية الاجتماعية.
وكما هو الحال في العديد من الظواهر الاستعمارية، كما أقام اللسانيون تنوعات متميزة بدلا من اكتشافها ويؤكد فابيان ذلك فيما يخص اللغة السواحلية وهاريس فيما يخص لغة تسونغا (إحدى اللغات المتحدثة في جنوب إفريقيا). ويرى كوهن أن النحو والقواميس والترجمات البريطانية للغات الهند أبدعت خطاب الاستشراق وحولت صيغ أو أشكال المعرفة الهندية إلى أشياء أوروبية. وعادة ما يكون للبنية اللسانية المستوعبة معنى سياسيا مختفيا في المواجهة الاستعمارية. وغالبا ما أشير إلى العجز الوظيفي أو الصوري للغات الأهلية – المحلية ومن ثم عجز العقل أو الحضارة المحلية عن تبرير الهيمنة الأوروبية. وبفضل الوثائق التاريخية كان بإمكان هذا البحث التاريخي أن يستكشف الإيديولوجيات اللسانية للمستعمرين بدلا من السكان الأصليين أو المحليين. لكن بعض الأبحاث تسعى إلى توضيح تناقضات وتفاعلات الاثنين. وتشير ما وراء تداوليات لغة التونغا ( تونغا أو رسميا مملكة تونغا هي أرخبيل يضم 176 جزيرة متناثرة على مساحة قدرها 748 كم2 بقرب من خندق تونغا في جنوب المحيط الهادئ) لمستويات الكلام إلى إمكانية إعادة تحليل مجتمع دمج مركبات مؤسسية ذات أصول أوروبية إلى بنى التراتبية التانغوية الاجتماعية.
وفي سياق متصل نجد أن لغتنا العربية ليست بمنأى عن ذلك، حيث يسود قلق عربي الحديث عن اللغة العربية بحلتها الفصحى، أو لعله من الأفضل أن نقول، بحلتها الفصيحة، ويتجلى هذا القلق بمقولات شتى يمكن إيجازها بشعارين اثنين: اللغة العربية في خطر داهم، من ناحية، واللغة العربية تعاني من التكلس الشديد أو الجمود الذي لا جمود بعده، من ناحية أخرى.
إن المتابع لهذه القضية لطالما قرأ أن هناك “حربا” على اللغة العربية تهددها من الخارج، بفعل قوى أجنبية تتطاول عليها، باعتبارها وسيلة ترمز للهوية العربية والإسلامية. وحتى تفعل هذه القوى فعلتها، فإنها تلجأ إلى استدراج بعض أبناء هذه اللغة؛ لتجعل منهم معاول هدم في أيديها، إذ يصبحون ويمسون طابورا خامسا، يُقوّض جذور هذه اللغة – الهوية عن دراية أو من دون دراية.
لعل الأهم من توصيف الإيديولوجيا اللغوية في أي مجتمع هو تفسيرها وربطها بسياقها التاريخي. إن الحديث عن الحروب والمخاطر اللغوية والانتحار اللغوي ظاهرة جديدة في تاريخ الإيديولوجيا اللغوية العربية التي كانت تدور في الماضي حول جمال اللغة العربية وغناها المعجمي وتفوقها على اللغات الأخرى. إذا ما سلمنا بذلك فلابد أن نقبل بأن عناصر الإيديولوجيا اللغوية الجديدة مرتبطة بحالة الضعف التي يعيشها أبناء هذه اللغة في السياق الحضاري العالمي. لا جديد في هذا التفسير. إنما الأمر الذي أريد أن أشير إليه هو أن القلق اللغوي العربي ليس ظاهرة لغوية في أساسه، بل هو في الدرجة الأولى ظاهرة سياسية تتقمص مظهر اللغة. إن صح ذلك فلابد أن نقبل إذن بأن إيديولوجيا اللغة العربية مادة تنتمي إلى علوم السياسة والمجتمع، كما تنتمي في الوقت ذاته إلى طلبة اللسانيات. ولابد أن نقبل أيضا بأن محاولات التصدي للقلق اللغوي العربي على أنه ظاهرة لغوية بحتة، على شاكلة اللسانيين المحدثين من العرب، قد لا تأتي أكلها المرجوة، لأنها تجعل من السياسي والاجتماعي أمرا لغويا يتطلب حلولا لغوية.
خلاصة القول، أصبحت اللغة والخطاب في الوقت ذاته موضوعات محورية في العلوم الاجتماعية والإنسانيات، ما جعل علماء الانثروبولوجيا الذين يشتغلون باللسانيات يتحسرون على تهميش هذا المجال العلمي الثانوي بالنسبة للإطار الأرحب لعلم الانثروبولوجيا الميداني. فموضوع إيديولوجيا اللغة قنطرة ضرورية بين اللسانيات والنظرية الاجتماعية وهي تربط بين الفعل الاتصالي على المستوى الثقافي التفصيلي باعتبارات القوة واللامساواة الاجتماعية السياسية الاقتصادية وذلك لمواجهة العوائق الاجتماعية الكبرى ضد السلوك اللغوي. وموضوع إيديولوجيا اللغة أيضا يغدو وسيلة كامنة لتعميق فهمنا الذي يميل إلى أن يكون سطحيا أحيانا للشكل اللساني وتنوعه الثقافي في الدراسات السياسية والاقتصادية للخطاب. وهكذا نجد أن إيديولوجيا اللغة عبارة عن أطر مفاهيمية حول اللغات، والمتحدثين، والممارسات الخطابية تتأثر إيديولوجيا اللغة، مثل غيرها من الإيديولوجيات، بالاهتمامات السياسية والأخلاقية، وتتشكل وفقا للإعدادات الثقافية. بمعنى أدق إن الإيديولوجيا اللغوية هي جملة معتقدات قوم ملقاة على الواقع، ومن ثم هي تأثر في تصرفاتهم اللغوية.
– المراجع المعتمدة:
– أبو بكر باقادر: إيديولوجيا اللغة، مجلة علامات، ج27، م7، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة محمد الخامس، الرباط، ذو القعدة 1418 ه – مارس 1998 م.
– حنين إبراهيم معالي: البُعد الإيديولوجي في روايتي موسم الحوريات وأبناء الريح وأثره في البناء الفني، مجلة دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، الجامعة الأردنية، المجلد: 44، العدد: 1، 2017.
– حيدر علي سلامة: لغة الايديولوجيا وايديولوجيا اللغة… قراءة في تاريخ العلامة المقهور، مجلة سيميائيات، الجزائر، المجلد: 11، العدد: 1، 29/09/2015.
– محمد أحمد عنب: الانثروبولوجيا اللغوية – تطور اللغات وتواصل الحضارات، موقع التقدم العلمي، 7 يوليو 2021. https://taqadom.aspdkw.com/
– هيئة تحرر الموقع: إيديولوجيا اللغة- Language ideology، موقع بالعربية، 30 يونيو 2022. https://bilarabiya.net/26860.html
– ياسر سليمان: ” العربية في خطر “… أو الإيديولوجيا اللغوية، العربي الجديد، 12 أبريل 2015. https://www.alaraby.co.uk
– باربارا جونستون: إيديولوجيا اللغة، ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي، موقع قناة 218، طرابلس (ليبيا)، 23/03/2018. https://www.218tv.net/%D8%A2%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9/