في ظل العديد من التساؤلات حول الدعم الكبير وغير المشروط للكيان الصهيوني من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، والذي بات مثار استهجان كثير من الأمريكيين أنفسهم.. يقدم لنا المخرج الأمريكي الإيطالي مارتن سكورسيزي الإجابة من خلال فيلمه “قتلة زهرة القمر” الذي كان فيلم الافتتاح في مهرجان كان في دورته الأخيرة.. يكشف المخرج الذي بلغ عامه الثمانين عن عقلية المستوطن الأمريكي التي لا تعرف سوى الإرهاب والسلب واغتصاب أراضي ممتلكات الآخرين بكل صورة ممكنة، مهما بلغت من درجات الإجرام والبشاعة.. مستندة فيما تقترفه من جرائم إلى مبررات شتى، بعضها يرتكز إلى نصوص دينية في العهد القديم.
القصة الواقعية التي اعتمد عليها سكورسيزي في فيلمه هي عن كتاب صدر عام 2017، للكاتب ديفيد جران بعنوان “قتلة زهرة القمر: جرائم قتل أوسيدج وولادة مكتب التحقيقات الفيدرالي” وقد شارك المخرج السينارست إريك روث والكاتب جران في صياغة سيناريو الفيلم.
تعود وقائع القصة الحقيقية إلى عام 1897، عندما اكتشف النفط في محمية أوسيدج، ما جعل هذه الأمة من السكان الأصليين للبلاد، أغنى أغنياء العالم.. وفي محاولة من جانب الإدارة الأمريكية لنهب تلك الثروة الطائلة أصدر الكونجرس قانونا عام 1921، بتعيين أوصياء على كل فرد من أمة أوسيدج لا سيما القُصَّر.. وهو القانون الذي بدأ معه عهد الإرهاب؛ إذ تآمر هؤلاء الأوصياء لسرقة حقوق شعب أوسيدج، فجرت عمليات فساد وقتل على نطاق واسع؛ ليرث هؤلاء الأوصياء المجرمون تلك الثروات الهائلة بعد وفاة أصحابها.
تبدأ قصة الفيلم بعودة الشاب “إرنست” من الحرب العالمية الأولى ليعيش مع عمه بارون الماشية وعمدة مقاطعة جراي هورس، ويليام هيل الملقب بـ كينج، وهو العقل المُدبّر للجرائم من أجل السيطرة على آبار النفط. كانت خطة هيل ذات وسائل وأساليب متعددة، أهمها دفع أقاربه من الرجال البيض للزواج من سيدات أوسيدج، ثم التدبير لقتلهن بطرق عدة، ليؤول الميراث لهيل بعد ذلك.
يقنع العم ابن أخيه الوسيم بالزواج من مولي المريضة بداء “السكري” الخطير آنذاك، بعد قصة غرام قصيرة، ليبدأ إرنست الساذج نسبيا تنفيذ مخططات عمه، فيشارك في قتل أهل زوجته (الأم والأخوات).. مع استمراره في مفاقمة خطورة الوضع الصحي لزوجته، بإجبارها على تناول عقاقير حديثة غير مأمونة.
ينحدر إرنست إلى قاع سحيق في الممارسة الإجرامية بين الاحتيال والسطو المباشر على مجوهرات نساء الأوسيدج من خلال تزعمه لتشكيل عصابي يمارس السرقة بالإكراه، إلى جانب ما يُكلِّفه به عمه اليهودي الماسوني من أدوار في مؤامرات قتل السكان الأصليين.
بعد نحو من ستين جريمة قتل ارتكبت على مدى ست سنوات، تنجح مولي في مقابلة الرئيس الأمريكي كالفن كولدج، لتخبره بمأساة شعبها، ليبدأ بعد ذلك التحقيق الجدي في تلك الجرائم البشعة، لينتهي الأمر بإدانة ويليام هيل، وإرنست بعد محاكمتهما وإثبات كافة الاتهامات عليهما بعد اعتراف إرنست بتفاصيل كافة الجرائم التي ارتكبها بأوامر من العم.
في دور العم هيل تألق على نحو معتاد المخضرم دي نيرو بأداء استطاع من خلاله سبر أعماق شخصية اليهودي الدموي النهم للثروة، والذي يبدو في نعومة الأفعى وهو يمارس دوره بوصفه عمدة المقاطعة؛ مظهرا حرصه على مد أواصر الود بين البيض والسكان الأصليين، بينما يتآمر ويمارس جرائمه من أجل السيطرة على ثروات أوسيدج.
لكن دي كابريو لم يكن أقل إبداعا في دور إرنست شبه الغبي المجرم بطبعه، والذي استطاع بأداء أكثر من رائع تشخيص العديد من نوازع النفس الإنسانية بين الحب لزوجته والتآمر عليها، وخوفه الشديد من عمه والانصياع له، ومحاولة الخروج من قبضته، إلى جانب رغبته في امتلاك الثروة بعد أن جرّب مرارة الفشل غير مرة.
لكن الإنصاف يقتضي القول أن الأداء الأروع والأكثر قربا من الكمال، كان للممثلة “لِيلِي جلادستون” في دور مولي.. في أداءات متنوعة بالغة الإتقان في أطوار إبداعية تنقلت خلالها من الفتاة العاشقة إلى الابنة الخائفة القلقة على مصير عائلتها، إلى الزوجة المصدومة غير المصدقة لحقيقة الرجل الذي أحبته وارتبطت به، إلى المريضة الموشكة على الموت إلى المتعافية نسبيا من أجل التصدي لمسئوليات الدفاع عن قومها ضد هذا الإرهاب المستمر.
لقد حرص مارتن سكورسيزي خلال 206 دقيقة هي زمن الفيلم على إيقاع هو أقرب إلى الرتابة، خاصة خلال الساعة الأولى من الفيلم، مع الاستعادة بمشاهد ولقطات أرشيفية، ولعل هذا الحرص يأتي من التزام المخرج بتقديم عمله بوصفه وثيقة إدانة تعتمد على إبراز الحقائق وإقرارها حتى لو كان ذلك على حساب جوانب فنية أخرى.
لا شك أن “قتلة زهرة القمر” هو العمل السينمائي الأهم و الاكثر قيمة خلال 2023، لكن قيمته الأكبر تكمن في إجابته على كثير من الأسئلة فيما يتعلق بالعقلية الأمريكية الإجرامية الداعمة على الدوام للإرهاب وقتل الأطفال والاستيلاء على أرض الغير وسلب الحقوق واغتصابها دون وازع من ضمير.. فهذا مكوّن رئيس في تلك العقلية التي أبادت السكان الأصليين بما يُقدَّر بأكثر من مئة مليون إنسان دون أن يطرف لهؤلاء السفلة جفن.
يفتح لنا سكورسيزي بفيلمه هذا آفاقا أكثر رحابة لفهم تلك الذهنية التي ورثت ثقافة المؤسس الذي لم يكن سوى لصٍ طريدٍ أو قاتلٍ محكومٍ بالإعدام أُبْعِدَ للمجتمع الجديد أو مغامرٍ باحثٍ عن الثروة بأي صورة.
قتلة زهرة القمر.. هم قتلة أطفال ونساء غزة ومن يدعمون جرائمهم في حق الإنسانية، وإن اختلف الزمان والمكان، حقيقة لم تعد تقبل الشك أو الجدل، بالإضافة إلى أنها كاشفة لذلك التابور الحقير من المبررين للإبادة الجماعية من بني جلدتنا.. الصهاينة الوظيفيون كما أسماهم الراحل عبد الوهاب المسيري.