وعلى نحو ما تقدم في الحلقة الثانية، يكون فيبر قد اعتمد منهجا مغايرا لما كان سائدا في الدراسات الاجتماعية. وسمة هذا المنهج الأساسية، هي اعتماد النسقية المركبة واكتشاف القوانين، التي تساعد في دراسة العلاقات، التي تربط بين مجالات الظاهرة المختلفة؛ بشكل يحفظ للإنسانية طابعها التركيبي. وهو بذلك تجاوز النظر التجزيئي الذي لا يمكن أن يفسر الظاهرة الإنسانية. فالأساس إذن في بناء النموذج المثالي حسب ما يرى فيبر، هو التشديد على فكرة ما، أو عدة أفكار، أو على وجهة نظر ما، أو عدة وجهات نظر، واستخراج طائفة من الحوادث المعزولة، الغامضة والخفية، التي يكثر العثور عليها أحيانا أو يتضاءل، وربطها بوجهات النظر المختارة من أجل أن ننشئ منها لوحة متجانسة.
ويبدو أن هذه الرؤية المنهجية قد تعمقت بشكل كبير عند المسيري، فكانت إسهاماته الأساسية في مجالات الفكر العربي، تكمن في توظيف النماذج التفسيرية، باعتبارها أدوات تحليلية، وهي إضافة منهجية ونوعية، أنتجت عملا فكريا متكاملا في جميع نتاجه الفكري والأكاديمي التي تتوزع على حقول معرفية مختلفة ومترابطة في الآن نفسه، فهو يربط بين دوائر فكره المختلفة ربطا مركبا عبر نماذج تحليلية، فلا يرى القارئ في الحقيقة غرابة في أن يكتب المسيري في اليهودية والصهيونية، وفي نقد الشعر وفي نقد الحداثة، وفي العلمانية بوصفها نموذجا معرفيا، وفي التحيز الأكاديمي العلمي الغربي، وضد نهاية التاريخ وفي الخطاب الإسلامي الجديد… وأخيرا يكتب كتب متميزة للأطفال تنال جوائز، فالخيط الناظم لذلك هو رؤيته الإنسانية المتجاوزة.
بذلك يستمد المسيري هذا البعد المنهجي التكاملي، من إسهامات علماء الاجتماع، خصوصا ما قدمه فيبر حول النماذج المثالية، يقول وكلمة نموذج كما استخدمها هي قريبة في معناها من كلمة theme، وهي تعني الفكرة المجردة والمحورية في عمل أدبي ما، والتي تتجاوز العمل ولكنها مع هذا كامنة فيه وفي كل أجزائه تمنحه وحدته الأساسية وتربط بين عناصره المختلفة، كما أن الكلمة قريبة في معناها من مصطلح النمط المثالي Ideal Type الذي استخدمه فيبر كأداة تحليلية.
وفي النهاية يمكننا استخلاص تعريف المسيري للنموذج التفسيري عندما يقول: عندما يتجه الإنسان إلى ظاهرة ما مستهدفا تفسيرها، فإنه يتخذ عدة خطوات حتى يصل إلى هذا التفسير، وحينما يرى الإنسان ظاهرة ما، فعليه التعامل مع عدد كبير من العلاقات والتفاصيل والحقائق والوقائع، وعندئذ يستبعد العقل بعضها؛ لأنه يعتقد أنها لا دلالة لها (من وجه نظره) ويستبقي البعض الآخر، وهذا هو التجريد وتأتي بعد ذلك خطوة الربط بين العلاقات والوقائع والحقائق التي أبقاها فينسقها تنسيقا خاصا بحيث تصبح حسب تصوره مماثلة للواقع، أي أن تكون قادرة على تقديم صورة معبرة بشكل صحيح عن الواقع، وما ينتج عن عملية التجريد وتصور العلاقات بين عناصر الظاهرة يسمى “النموذج” فهو بناء يماثل الواقع لكنه افتراضي، أي متخيل ومع هذا تشبه العلاقات بين عناصره العلاقات الموجودة بين عناصر الواقع.
بذلك يتأسس النموذج التفسيري وفقا لعمليات التجريد والتنسيق، وهي عمليات تدخل ضمن اختصاصات العقل التوليدي، ومعنى هذا أن العقل ليس آلة فوتوغرافية صماء، دورها الأساسي تسجيل الصورة ونقلها كما هي -بدعوى الموضوعية- بدون أدنى عمليات تنسيق أو ربط؛ بل إن للعقل دورا فعالا في عملية إدراك الواقع. وبالتالي فهم الظاهرة في حالتها الكلية، وذلك عبر مرحلتين أساسيتين: مرحلة الوصف، وتتحقق عبر تفكيك الظاهرة إلى مفاهيمها الأساسية؛ ثم مرحلة التركيب، أي تركيب المفاهيم وكشف متغيرات الظاهرة وتفاعلاتها عبر الزمن. وتكون بذلك خلاصة هذه العملية اكتشاف النموذج الأكثر قدرة على التفسير.
وهكذا نجد أن النموذج عند المسيري ليس إطارا للعلاقات النسبية، ولا نظرية لتحديد الأسباب، وليس إطارا تجريبيا صارما؛ وإنما هو إطار لتنظيم المعرفة وتحديد العلاقات والتركيبات الداخلية، كما يحتوي المعلومات وينظمها، ثم يعيد ترتيبها مع كل معلومة جديدة، كما يؤكد المسيري أن النماذج التحليلية نماذج واعية يصوغها الباحث من خلال قراءته للنصوص المختلفة، وملاحظته للظواهر المتنوعة، فيفكك الواقع ويعيد تركيبه من خلالها، بحيث يصبح الواقع أو “النص” مفهوما ومستوعبا بشكل أعمق، ويصف بعض الباحثين أسلوب المسيري في تشكيل النموذج التفسيري، حيث إنه يحدد مفاهيم كل مفهوم منها يصف جانبا من الظاهرة ويعرفه، فيصبح اسما له.. ثم يقيم المسيري العلاقة بين مفهوم وآخر من خلال حالة التقابل واللقاء الواقعي بين المفهومين وبالنظر التاريخي، يتحول المفهوم إلى تاريخ معرفي، فتصبح له حالات تتطور عبر الزمن، ومنها يكتسب المفهوم بُعدا تاريخيا يجعله مماثلا لتاريخ الظاهرة، ويعيد المسيري الربط بين المفاهيم في حالتها التاريخية؛ حتى يكتشف التاريخ المشترك لها ومع تعدد المفاهيم يتحول النموذج التفسيري إلى نموذج متعدد الأبعاد، فلا يفسر الظواهر من خلال تركيب أحـادي، بل من خلال التركيب المتعدد. ومن التاريخية ثم تعدد الأبعاد، ثم التفاعل بين الأبعاد يتشكل النموذج المعرفي في صورة تتماثل مع الظاهرة، من حيث التركيب والتعدد والتفاعل.
لقد استطاع المسيري أن يتخلص من القبضة الحديدية التي تفرضها النماذج المعرفية الغربية، بسماتها التفكيكية المعلوماتية المتحيزة، وأن يخلق إطارا معرفيا يرتبط بالحقل التداولي العربي المتجاوز، تكتشف من خلاله الذات والآخر معا، الأمر الذي دفع المؤرخ الأمريكي المعاصر كافين رايلي Kevin Riley ( 1941- ) إلى أن يصف المسيري بأنه “مفكر عربي في سياق عالمي”.
وبعد، فقد حاولنا أن نلامس في هذا المدخل مفهوم النماذج التفسيرية، وهي كما أشرنا آليات تحليلية، لعل أبرزها تلك التي وظّفها المسيري في موسوعته، فهي تعتمد على بناء ثلاثي الأبعاد: العلمانية الشاملة والحلولية الكمونية والجماعات الوظيفية. وتجدر الإشارة إلى أن عملية الفصل بين هذه الأبعاد، التي سننهجها في معرض تناولنا لها في المباحث الثلاثة اللاحقة، لا تعني انفصالها، وإنما الضرورة المنهجية هي التي أفضت بنا إلى ذلك. فالنماذج الثلاثة متصلة ومتداخلة، أنتجت عملا متكاملا في الموسوعة التي تتسم بالترابط الشديد، أضف إلى ذلك أن عملية التحليل والتركيب التي يقدمها هذا الإطار المعرفي، هي عملية في حالة تفاعل مستمر، فهي تتطور من خلال اكتشاف كل جديد أو إضافة للظاهرة موضع الدراسة، وهو ما يعني أن النموذج ليس ثابتا وإنما هو في حالة حركة مستمرة، وبذلك فان عملية ضبط النموذج في حالة تاريخية معينة تعني اغتياله.