رؤى

الرسم “القرءاني”.. ودلالة “الألف” المادية

فضلا عن حرف “التاء” الذي كنا قد تناولناه في حلقتين متتاليتين؛ يأتي حرف “الألف”، ليُعبر عن إحدى الظواهر في الرسم القرءاني؛ نعني مجيء اللفظ الواحد مرسوما بألف في موضع، وبغير ألف في موضع آخر. ومن المنطقي أن هذا الاختلاف في “المبنى”، يترتب عليه اختلاف في “المعنى”؛ وبالتالي، تختلف دلالات اللفظ بحسب اختلاف الرسم القرءاني لحرف الألف.

وضمن عديد من الأمثلة على حرف “الألف”، بوصفه مؤشرا دلاليا؛ يأتي لفظ “شاهد”، الذي ورد في كتاب الله الكريم في سبعة مواضع.. منها أربعة مواضع ثُبِّتَ فيها حرف الألف، في حين ورد ثلاثة منها لم يثبت فيها حرف الألف.

بالنسبة إلى المواضع الثلاثة الأخيرة، التي لم يُثبت فيها حرف الألف.. يقول سبحانه وتعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرسَلنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا” [الأحزاب: 45]؛ ويقول سبحانه: “إِنَّآ أَرسَلنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا” [الفتح: 8]؛ ويقول تعالى: “إِنَّآ أَرسَلنَآ إِلَيكُم رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيكُم كَمَآ أَرسَلنَآ إِلَىٰ فِرعَونَ رَسُولٗا” [المزمل: 15].

وكما يبدو، في هذه الآيات الكريمات الثلاث، فقد ورد لفظ “شَٰهِدًا” دون تثبيت حرف الألف؛ بما يدل، على الجانب المعنوي الوظيفي للفظ. يتبدى ذلك بوضوح، إذا لاحظنا أن الآيات الثلاث تختص بالإخبار عن الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام؛ حيث وردت صيغة الفعل “أَرسَلنَٰكَ شَٰهِدٗا” في آيتين، للدلالة على ما يحمله الرسول من “رسالة”، بما يؤكد أن المقصود هو “تبليغ الرسالة”؛ هذا رغم أن مُفتتح الآية الأولى [الأحزاب: 45] هو “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ”، لكن سياق الآية الكريمة “إِنَّآ أَرسَلنَٰكَ شَٰهِدٗا”، كما الآية الكريمة الثانية [الفتح: 8] يؤكد أن الدلالة تتعلق بـ”الرسالة”، من حيث كون الرسول، عليه الصلاة والسلام، “شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا”.

وهو ما يدل، مرة أخرى، على أن عدم تثبيت حرف الألف في اللفظ القرءاني، إنما يؤشر إلى الجانب المعنوي الوظيفي؛ تماما، مثلما جاء في الآية الكريمة الثالثة [المزمل: 15]، حيث ترد الصيغة “أَرسَلنَآ… رَسُولٗا… أَرسَلنَآ… رَسُولٗا”، للدلالة على أن الهدف هو تبليغ الرسول للرسالة؛ وبالتالي يكون “شَٰهِدًا عَلَيكُم”، وهو ما يؤكد، من جديد، على الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح القرءاني “شَٰهِدًا”.

فماذا إذن، عن المصطلح القرءاني “شَاهِدٞ”، الذي يثبت فيه حرف الألف؟

ضمن المواضع التي ورد فيها لفظ “شَاهِد”، ولا تتعلق بالإخبار عن الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام، ويثبت فيها حرف “الألف”، مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي للفظ؛ يأتي قوله سبحانه: “أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَة مِّن رَّبِّهِۦ وَيَتلُوهُ شَاهِدٌ مِّنهُ وَمِن قَبلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامٗا وَرَحمَةًۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤمِنُونَ بِهِۦۚ وَمَن يَكفُر بِهِۦ مِنَ ٱلأَحزَابِ فَٱلنَّارُ مَوعِدُهُۥۚ فَلَا تَكُ فِي مِريَةٖ مِّنهُۚ إِنَّهُ ٱلحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤمِنُونَ” [هود: 17].

وكما يبدو، عبر سياق الآية الكريمة، فإن “شَاهِدٌ” تتعلق بـ”التنزيل الحكيم”؛ فضلا عن أن لفظ “شَاهِدٌ” يُرَد إلى التلاوة “يَتلُوهُ شَاهِدٌ مِّنهُ”. وهنا، لنا أن نلاحظ أن التلاوة تختص بالألسن الإنسانية؛ ومن المعروف أن هذه الألسن ذات شقين: الأول، هو الأصوات التي لها وجود مادي عضوي “موضوعي”؛ والثاني، هو دلالات هذه الأصوات في الذهن الإنساني، وهو الجانب المعنوي الوظيفي. وهذه الخاصية يتميز بها الإنسان، من حيث إن الألسن الإنسانية تتألف من دال ومدلول. ومن ثم، تختص التلاوة بالجانب المادي العضوي “يَتلُوهُ شَاهِدٌ”، أي الأصوات التي تصدر عن هذا الـ”شَاهِد”.

يعني هذا، في ما يعنيه، أن لفظ “شَاهِد”، في حال تثبيت حرف الألف، يؤشر إلى الجانب المادي العضوي للمصطلح القرءاني “شَهِدَ”. أضف إلى ذلك، ما يؤكده السياق القرءاني الذي ورد فيه اللفظ، في الآية الكريمة، بما يشتمل عليه من ألفاظ لها دلالات مادية، مثل لفظ “بَيِّنَةٖ” التي هي “دليل مادي قابل للإِبصار والمُشاهدة”؛ فإذا اتهمنا إنسانا بالسرقة، كمثال، فعلينا أن نُقيم عليه الحجة بـ”البينة”، أي بالدليل المادي.

ولنا أن نُضيف دليلا من الآية الكريمة، على أن لفظ “شَاهِد” يتعلق بـ”التنزيل الحكيم”؛ إذ لنا أن نتأمل خاتمة الآية التي تؤكد ذلك بوضوح:” إِنَّهُ ٱلحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤمِنُونَ”؛ وهو ما يتأكد، عبر آيات قرءانية كثيرة، من أن “ٱلحَقُّ” هو التنزيل الحكيم؛ منها قوله تعالى: “وَإِذَا تُتلَىٰ عَلَيهِم ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلحَقِّ لَمَّا جَآءَهُم هَٰذَا سِحرٞ مُّبِينٌ” [الأحقاف: 7].

أيضا، ضمن المواضع الأربعة التي يأتي فيها لفظ “شَاهِد”، وقد ثبت فيه حرف الألف، يأتي قوله سبحانه: “قَالَ هِيَ رَٰوَدَتۡنِي عَن نَّفسِيۚ وَشَهِدَ شَاهِد مِّن أَهلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ ٱلكَٰذِبِينَ” [يوسف: 26]؛ وهنا كما في الآية الكريمة السابقة [هود: 17]، يتبدى بوضوح أن لفظ “شَاهِد” يُشير إلى شخص مُعين، أي إنسان مُحدد “شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ”؛ بما يؤكد على الجانب المادي العضوي للـ”شَاهِد”.

هذا، إضافة إلى ما تؤكده الآية الكريمة من ضرورة “الدليل المادي” لإثبات صحة الحدث، كما يأتي عبر سياق الآيات التالية لهذا الآية؛ إذ، يقول تعالى: “قَالَ هِيَ رَٰوَدَتنِي عَن نَّفسِيۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن أَهلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ ٱلكَٰذِبِينَ ٭ وَإِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ٭ فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُۥ مِن كَيدِكُنَّۖ إِنَّ كَيدَكُنَّ عَظِيم” [يوسف: 26-28].

وكما يأتي التعبير القرءاني “وَشَهِدَ شَاهِد” للدلالة على الجانب المادي العضوي للمصطلح “شَهِدَ”، في هذه الآية؛ يأتي أيضا التعبير “وَشَهِدَ شَاهِدٌ”، ولكن هذه المرة “مِّنۢ بَنِيٓ إِسْرَٰٓءِيلَ”، للإشارة إلى الدلالة نفسها، وذلك في قوله عزَّ من قائل: “قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كَانَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرۡتُم بِهِۦ وَشَهِدَ شَاهِدٞ مِّنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ مِثۡلِهِۦ فَـَٔامَنَ وَٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ” [الأحقاف: 10].

ثم، يأتي الموضع الأخير، في ورود لفظ “شَاهِدٞ”، وقد ثبت فيه حرف الألف، للدلالة على الجانب المادي العضوي للمصطلح القرءاني “شَهِدَ”. يقول سبحانه: “وَشَاهِدٍ وَمَشۡهُودٍ ٭ قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ” [البروج: 3-4]؛ حيث تتبدى الحركة العطفية “وَشَاهِدٍ وَمَشۡهُودٍ”، ضمن سياق يحتوي على دلالات مادية عضوية متتالية: “وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ ٭ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ ٭ وَشَاهِدٍ وَمَشۡهُودٍ ٭ قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ ٭ ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلۡوَقُودِ” [البروج: 1-5]؛ حيث تأتي “ٱلۡبُرُوجِ… ٱلۡأُخۡدُودِ… ٱلۡوَقُودِ” لتؤشر إلى جوانب مادية عضوية؛ هذا، فضلا عن دلالة لفظ “مَشۡهُود” المادية، من حيث إن الـ”مَشۡهُود” هو الذي يُمكن رؤيته عينيًا، من الخلال المُشاهدة.

وللحديث بقية.

 

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock