خلال اجتماعه مع سفراء الاتحاد الأوروبي، قبل أيام قليلة، ناقش رئيس حكومة “الوحدة الوطنية” المؤقتة، عبد الحميد الدبيبة، عددًا من القضايا السياسية، فضلًا عن ملف التعاون مع دول الاتحاد الأوروبي؛ بالإضافة إلى المُبادرة المُقدمة من “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا”، برئاسة عبد الله باتيلي؛ ومُرحبًا، في الوقت نفسه، بعودة سفارات الاتحاد الأوروبي للعمل من ليبيا.
وكما يبدو، فإن عددًا من الدوافع يستند إليها الاهتمام الأوروبي، في العودة إلى الساحة الليبية، عبر بوابة “الغرب” الليبي؛ يأتي في مقدمتها الملف الخاص بالهجرة غير النظامية إلى أوروبا عبر ليبيا، ومحاولة أوروبا في منع استغلال تركيا لهذا الملف، فضلًا عن محاولات الاتحاد في صد الضغط الروسي على جنوب أوروبا. أضف إلى ذلك، ما يتعلق بملف الطاقة، سواء لجهة الغاز أو النفط الليبيين.
يأتي كل من الغاز والنفط الليبيين، ضمن الملفات الدافعة للاتحاد الأوروبي في العودة إلى ليبيا.. وهو ما يبدو بوضوح كما يلي:
فمن جانب؛ تبدو أهمية الغاز الليبي بالنسبة إلى أوروبا؛ فقد أظهرت بيانات حديثة، أن صادرات الغاز الليبي تأتي في الترتيب الخامس، قياسًا إلى قائمة الدول المُورِدة للغاز إلى أوروبا. ومن خلال هذه البيانات، التي ذكرها خبير الصناعات الغازية لدى منظمة الأقطار العربية المُصدرة للنفط “أوابك”، المهندس وائل عبد المُعطي، عبر حسابه على منصة “X”، في 13 أغسطس الماضي، يتضح أن ليبيا قد سجلت مُعدل ضخ وصل إلى 5.3 مليون متر مكعب يوميًا، عبر خطوط الأنابيب إلى دول الاتحاد الأوروبي.
يأتي هذا في الوقت الذي وصل فيه معدل الغاز القادم إلى أوروبا، من النرويج والجزائر وروسيا وأذربيجان، نحو 453 مليون متر مكعب يوميًا. ورغم أن نسبة الغاز القادم من ليبيا صغيرة نسبيًا، بالنسبة إلى الدول الأربعة التي تسبقها في الترتيب؛ إلا أنها، في إطار ظروف العقوبات الأوروبية على روسيا، نتيجة حرب أوكرانيا، تُعتبر مهمة؛ خاصة في حال إمكانية زيادتها، واعتمادًا على قرب السواحل الليبية من جنوب أوروبا.
من جانب آخر، الاهتمام الأوروبي بمخزونات النفط الليبي؛ إذ، توجه أنظار الدول الأوروبية إلى ليبيا، وبالتحديد إلى النفط الليبي، من منظور ما تحتكم عليه ليبيا من مخزونات نفطية، تصل إلى 48 مليار برميل، بما يجعلها في المرتبة التاسعة عالميًا، وفي المركز الثالث على مستوى قارة أفريقيا. والأهم، ما تُمثله من مصدر بديل، أو في الحد الأدنى مُساعد، من مصادر النفط التي تتوجه إليها الأنظار الأوروبية.
وبحسب ما يذكر موقع الطاقة، في 15 مارس الماضي، فقد ارتفع إنتاج ليبيا إلى نحو مليون و300 ألف برميل يوميًا، قبل أكثر بقليل من عام؛ إلا أنه، نتيجة المشكلات الأمنية الداخلية وما تتسبب به من إغلاقات لآبار النفط، بقي مُتقلبًا، ولم يُحافظ على هذا المُعدل في الإنتاج. رغم ذلك، يظل الإنتاج الوفير من النفط الليبي، مهمًا بالنسبة إلى أوروبا، على الأقل من حيث قرب ليبيا من الشواطئ الأوروبية، مما يُقلل من تكلفة النقل قياسًا إلى مناطق أخرى من العالم.
يأتي هذا الملف ضمن أهم الملفات، من حيث الاهتمام الأوروبي، في العودة إلى الساحة الليبية.. وهو ما يبدو بوضوح كما يلي:
فمن جهة، هناك إشكالية الهجرة غير النظامية لأوروبا: إذ، تكفي الإشارة إلى الكيفية التي تزايدت بها ظاهرة “الهجرة غير الشرعية”، بشكل غير مسبوق، إلى ليبيا؛ فقد كشفت منظمة الهجرة الدولية، في 15 يوليو الماضي، أن ليبيا يعيش بها أكثر من 700 ألف أجنبي، معظمهم يرغب في التوجه إلى أوروبا. بل، وفي تقريرها الصادر قبل عامين، في أكتوبر 2021، أفادت المنظمة أن عدد المهاجرين غير الشرعيين، الذين وصلوا إلى ليبيا، خلال عامي 2018/2019، بلغ 679.897 ألف مهاجر، معظمهم قادمين من القارة الأفريقية، من 42 جنسية مختلفة.
ومن ثم، تُمثل ليبيا نقطة ارتكاز رئيسة في ملف المهاجرين، غير الشرعيين، إلى أوروبا؛ حيث يُغادر حوالي 90 % من المهاجرين المتوجهين إليها عبر السواحل الليبية. وبالتالي، شكل موضوع الهجرة نقطة تجاذب مستمر في العلاقات الليبية الإيطالية، كمثال واضح على العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي بخصوص الظاهرة؛ خاصة في إطار سياسات الاتحاد ومحاولاته، في الدفع إلى تحويل ليبيا من “دولة عبور” إلى “أرض مهجر”.
من جهة أخرى، محاولة صد الضغط الروسي والتركي: حيث تخشى دول الاتحاد الأوروبي من محاولات تركيا، في ظل التعقيدات التي طالت العلاقات بينهما، لاستغلال ملف الهجرة، للضغط على أوروبا؛ وذلك عبر تحويل القواعد البحرية التي تسعى لإقامتها على سواحل ليبيا، إلى “ورقة ضغط”، تمارس من خلالها نفوذها على طرق وممرات الهجرة إلى أوروبا. ولعل هذا التخوف الأوروبي، يرتكز على عدم إيفاء تركيا بالتزاماتها في اتفاق الهجرة، الموقع بين الطرفين، منذ عام 2016.
أما بالنسبة إلى روسيا، فيبدو التخوف الأوروبي أكثر منه في حالة تركيا؛ خاصة في ظل وجود خط الغاز البحري، الذي يربط بين أوروبا وليبيا عبر الشواطئ الإيطالية. إذ، تُدرك دول الاتحاد الأوروبي أن هذا الخط، يُمثل أهم الدوافع لتدخل روسيا في ليبيا، ومحاولة التحكم في الغاز الليبي كمصدر تعتمد عليه أوروبا؛ بما يعني أن خط الغاز البحري “غرين ستريم”، يُمكن أن يُمثل “ورقة ضغط”، أخرى مُضافة إلى ورقة الهجرة، على الأوروبيين في حال استطاعت موسكو امتلاكها.
في هذا السياق، يُمكن القول بأن ما تمتلكه ليبيا من موقع استراتيجي مهم، لقربها من الشواطئ الأوروبية، وما تتحكم به من احتياطات كبيرة من الغاز والنفط؛ فضلًا عن إشكاليات الهجرة غير الشرعية، عبر الأراضي والسواحل الليبية، وما يُمثله هذا الملف من تحديات للقارة الأوروبية كاملة، وليس فقط دول الجنوب فيها؛ هذه كلها ملفات يستند إليها الاهتمام الأوروبي في النظر إلى ليبيا، بل وفي محاولة عودة الاتحاد الأوروبي للعمل من داخل ليبيا، بعد أن غاب عن الساحة الليبية وتفاعلاتها لسنوات.
رغم ذلك، ورغم الأهمية التي يوليها الاتحاد إلى ليبيا، إلا أن اختلاف استراتيجيات بعض الدول الأوروبية مع بعضها البعض، وخصوصًا فرنسا وإيطاليا، يمكن أن يُساهم إلى حد كبير في معوقات تواجه محاولات الاتحاد في العودة للعمل من الداخل الليبي؛ إذ، إن الواضح أن الخلاف الإيطالي الفرنسي، لا يتعلق فقط بمحاولة الدخول على خط الطاقة الليبية؛ ولكنه، أيضًا، يمتد إلى ملف الهجرة، حيث ترفض فرنسا التعاون الإيطالي مع فصائل مُسلحة بعينها لمنع وصول المهاجرين إليها.
والواقع، أن هذا الباب تحديدًا، هو ما أتاح، وما زال يُتيح، الفرصة للميليشيات لترسيخ وجودها على الأرض الليبية، إلى الدرجة التي أصبحت فيها هذه الميليشيات قيدًا على إمكانية حلحلة الأزمة الممتدة لسنوات طويلة في ليبيا.