في نهاية ظهر يوم الثّلاثاء 17 صفر 1444هـ/ 13 سبتمبر 2022م خرجت من أصفهان إلى يزد بصحبة حسين طهرانيّ من إيران، وغسّان القلهاتيّ وعمّار البلوشيّ من عمان، والمسافة من أصفهان إلى يزد حوالي ثلاثمائة وعشرين كيلو مترا، أي نحتاج من أربع إلى خمس ساعات تقريبا؛ وفي الطّريق مررنا بمدينة نائين، وتذكرتُ الميرزا محمّد حسين النّائينيّ (ت 1936م) من المؤيدين للحركة المشروطة أو ما تسمّى بالثّورة الدّستوريّة الفارسيّة، في أواخر الدّولة القاجاريّة، وهدفها رفع الاستبداد، وتوسيع الشّورى، وفق نظام يشترك فيه الشّعب، تحت مظلّة الملكيّة الدّستوريّة، بدلا من الملكيّة الاستبداديّة المطلقة، واشتهر الشّيخ النّائينيّ بكتابه “تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة”، وهو من أهم الكتب النّهضويّة المعاصرة ضدّ الاستبداد في الفكر الشّيعيّ خصوصا، وقد طبع لأول مرّة بالفارسيّة سنة 1909م، ويعتبر بعضهم الكتاب بذور فكرة ولاية الفقيه والّتي طوّرها الإمام الخمينيّ (ت 1989م) لاحقا، وإن كانت لها تنظيراتها في الكلام والفقه الشّيعيّ.
وصلنا إلى يزد في بداية اللّيل، ووصلنا إلى نزل يقع في زقاق ضيّق في منطقة تراثيّة، إذ العديد من أهالي يزد يحوّلون بيوتهم إلى نزل، وهي عادة بدأت تنتشر في عمان، كما نراه في عقر نزوى اليوم، والنّزل الّذي سكنا فيه تراثيّ، فهو بيت كبير، فيه بئر في وسطه، ومصمّم على التّراث الفارسيّ العريق، ويزد بيوتها مبنيّة من الطّوب، يقال أصلها سجن أسّسه الإسكندر المقدونيّ (ت 323 ق.م)، ثمّ أصبحت من أهم المدن الإيرانيّة خصوصا في الدّولة الصّفويّة، وارتبطت بالزّرادشت، وتتميّز بالقنوات المائيّة، وفيها قناة زارش وهي من أقدم القنوات المائيّة في إيران، وتشبه في هذا القنوات المائيّة في عمان، كما فيها العديد من خزّانات المياه والحمّامات وأبراج الرّياح، وزرنا أحد خزّانات الماء تحت الأرض، وهي موضوعة بطرق عجيبة، فمع كون يزد صحراويّة، وحراراتها مرتفعة في الصّيف، إلّا أنّ طريق خزّانات الماء تجعلك كلّما اتّجهت إلى الأسفل تشعر ببرودة شديدة، ولهم حولها صالة لألعاب أشبه بصالة المصارعة، ويحملون عصي مختلفة الأحجام، كلّما ارتفعت إلى الأعلى يتضخم حجمه، ووزنه كبير، يشترك فيها الصّغار والكبار.
ويزد فيها أماكن سياحيّة عديدة، منها ساحة أمير شخماق، أو ما يسمّى مجمع أمير شخماق (ت 771هـ)، من حكّام الدّولة التّيموريّة، وهي ساحة كبيرة في قمّة الجمال والنّظام، وتدور على بازار كبير، وجامع كبير أيضا، وفيها مقاهي عديدة، وممتلئة بالسّواح، والعديد منهم غربيّون، كما ذهبنا إلى مسجد يزد، أو مسجد جامع، أي تقام فيه صلاة الجمعة، وهو من المساجد العريقة في يزد، كما زرنا بعض المتاحف الشّعبيّة.
ثمّ ذهبنا إلى الحيّ الزّرادشتيّ لموعد مع الدّكتور مهرباك بولادي من علماء الزّرادشت، وفي البداية عرّفنا بالحيّ، وتأريخ الزّرادشت فيه، ثمّ ذهبنا إلى متحف للزّرادشت أسّسه بنفسه، عبارة عن متحف ومكتبة ومكان للحفلات والمراسم الخاصّة، وعند الدّخول قابلتنا امرأة زرادشتيّة، لهنّ لباسهنّ الخاص، وهو قريب من اللّباس التّقليدي عندنا في داخليّة عمان، وبهذا اللّباس ممكن تعرف النّساء الزّرادشتيّات، والمتحف يحتوي على العديد من الصّور المتعلّقة بعبادات وطقوس وتأريخ الزّرادشت، كما توجد صكوك للحوالات القديمة، ووثائق التّجار فيما بينهم، مع اليهود والمسلمين وغيرهم، وتوجد لديهم أول وثيقة تأمين مع الهند بداية الدّولة البهلويّة، ووثيقة أول بنك في إيران قبل مائة سنة، وكان من المؤسّسين له جدّ الدّكتور بولادي، وتوجد وثيقة أيضا لجدّ الدّكتور مع الجمعيّة اليهوديّة بشأن أخذ الأموال إلى الأهواز، كما توجد وثيقة له أيضا لحديقة أوقفت للنّاس في شيراز من قبلهم، ووثائق أسعار المبيعات في إيران أيام الدّولة القاجاريّة، وتوجد عقود زواج للمسلمين، حيث يأتون إلى الزّرادشت ليكتبوا لهم، كما يأتون إلى الزّرادشت لقراءة القرآن لهم على الماء للبركة، وفي المتحف توجد أقدم نسخة من الأبستاق بالخطّ البهلويّ القديم، وهو أكمل خطّ بالعالم، حيث فيه خمسون حرفا، وتوجد نسخة أخرى متأخرة بالفارسيّة، وتوجد نسخ لآثار إسلاميّة ومنها جدّ الدّكتور وخطّه جميل، ومنها كتب لمناقب الأئمّة، وتوجد صور لمسكوكات الإسلاميّة، وهي مستلهمة من السّاسانيّة، كما توجد مسكوكات قاجاريّة وبهلويّة وهنديّة.
وقبل مائة سنة تقريبا كان جدّ الدّكتور بولادي من علماء الزّرادشت الكبار وتجّارهم، وكان من كبار علماء هذا الحي، ومسئولا عن الجمعيّات وسكان الحي من الزّرادشت، وله أعمال تجاريّة في مناطق أخرى كالأهواز، وهذا المكان – أي المتحف – كان بيته، وقد هاجرت العديد من العوائل في زمنه لما يقرب من ستمئة عائلة إلى الأهواز، وذهب معهم من المسلمين أيضا، لكون البيئة هناك أفضل للزّراعة والمعيشة، وأصبحوا اليوم هؤلاء الزّرادشت من أغنى أهالي الأهواز، ومع ذلك مع مرور الوقت أصبح الزّرادشت هناك قلّة مقارنة بالعرب والمسلمين الّذين شاركوهم في سكنى الحيّ.
دخلنا إلى غرفة فيها صور من حكم إيران، من العهد القديم، وحتّى العهد القاجاريّ، ويرون أول ملك إيراني هو كيوماركس، ثمّ جاء الحكم السّاسانيّ، وأصبح الحكم للزّرادشت.
ثمّ ذهبنا إلى غرفة فيها صور للأماكن والعادات المقدّسة للزّرادشت، وبيّن أنّ النّسبة الأكبر من حيث العدد في طهران، ثمّ تأتي يزد في المرتبة الثّانية، ثمّ كرمان، وتوجد صورة لمقابر أبناء الملوك في يزد، وتوجد صورة للنّار الكبيرة المقدّسة، وكانت سابقا في أذربيجان وفارس ومشهد، كما توجد صور لجدّ الدّكتور ودوره الاجتماعيّ والإصلاحيّ حتّى بين المسلمين، وتوجد غرفة فيما يخصّ الحفلات الدّينيّة قديما وحديثا، وهنا أخبرني أنّهم يعتقدون أنّ الله خلق العالم في ستّة مراحل، ولهذا لديهم ستّة أوقات مقدّسة في العام، ولهذا رموزه الطّقسيّة، مثلا في بعض المراسم يأتون بستّة أكواب، يضعون فيها أعشاب مقدّسة، ويرشون عليها المياه، وطوال اللّيل يقرءون عليها الدّعاء من كتابهم المقدّس، وبعد صلاة الفجر يوزعونه للحضور، وتوجد صورة لعيد النّيروز والاحتفال به، ويعتقدون أنّ خلق الإنسان والعالم كان في هذا اليوم، وهو عيد رأس أو بداية السّنة، والعقيدة لديهم تقوم على ثلاثة أسس: أولا: الإيمان بالله وتوحيده، وثانيا: المعاد والبعث، وثالثا: النّبوّة، ثمّ تأتي الأخلاق والشّرائع.
وأنا هنا استشكل لديّ صورة المدافن، فسألته: الّذي أعرفه في الزّرادشتيّة أنّ التّربة مقدّسة لهذا لا يدفنون فيها موتاهم، فأجابني: هذا يسمّى عندهم دخنة، والميّت منهم يضعونه في الأعلى أو أبراج الصّمت لتأكله الطّيور، حتّى لا يلوث الأرض، ولكن قبل مائة سنة أصبحوا يدفنون موتاهم، وهنا استشكل عليّ سؤال آخر، بما أنّهم يقدّسون العناصر الأربعة أيضا: النّار والماء والهواء والتّربة، فلمّا يضعون الميّت في الأعلى لتأكله الطّيور، ألا يلوث هذا الهواء؟ فقال: لا؛ لأنّ الطّيور تأكل الجثة مباشرة، وبعد يومين أو ثلاثة لا يبقى سوى العظام، ثمّ يذيبون العظام بالحامض الكبريتيّ (التّيزاب أي الماء الحاد)، ولهذا يسمّون الأرض الّتي يذاب فيها العظام دخنة.
كما توجد صور لحفلة الرّحمة أو الهديّة لمناسبة خلق الله لهذا العالم، ويظهر فيها المكسرات والورود، والنّاس في هذا اليوم يتهادون، وسألته عن سبب تعليق الفواكه في الأعلى؟ قال ابتداء: الرّمان رمز للمساواة بين البشر جميعا، وهو دعوة إلى حسن التّعايش والتّعاون بين النّاس، كذلك باقي الفواكه لها رموز خاصّة، لهذا يعلّقونها كناحية رمزية.
كما توجد صورة لطهارة الماء، فالماء عندهم مطهَّر ومطهِّر معا، في بداية الحفلة يصلّون، ثمّ تصبّ البنات الحليب على الماء لإضفاء طهارة الماء، ويحتفلون بهذا في شهر نوفمبر، كما يكرّرونها في مناسبات في العام ستّ مرات.
كما رأينا صورة زرادشت الّذي بعث قبل ثلاثة آلاف وسبعمائة عام كنبيّ في أذربيجان، وفيها صورة لرحلة زرادشت ابتداء من أوائل يونيو، واستشهد في بلخ بأفغانستان، ولا يعرفون موقع ضريحه بالضّبط، وقد مرّ على إيران، ولهذه المناسبة يصلّون ويقرءون الدّعاء، ويقرءون الأدعيّة بالبهلويّة القديمة، ويلبسون الكمّام على وجوههم وقت الدّعاء والعبادة حتّى لا يلوث الفواكه والنّار المقدّسة، وتوجد صورة لكاشتاسب، يقال إنّه أول ملك آمن بزرادشت.
وتوجد صور لحفلة موسم خلق المرأة، وهي حفلة خاصّة للمرأة، وتكون في أوائل مارس الميلاديّ، وهنا عقّبت عليه أنّ عيد الأم في مارس أيضا، فلربما اقتبس من الزّرادشتيّة، فوافقني الرّأي، ثمّ رأينا صورة الملاك، وأحفظ على شكل امرأة، ويرونه واسطة بين الله والبشر، والّذي فهمته يسمّونه أمّا لأنّه أم البشر.
وتوجد صورة للنّار الّتي يحرقونها قبل عيد النّيروز، وهي رمز للطّهارة، كما يعتقدون أنّ الميّت في آخر العام قريب من الله، فيشعلون النّار، ثمّ يدعون الله لتطهير الميّت، ويكون لخمسة أيام قبل العام الجديد، ويسمونه المقتاد.
والنّار عندهم رمز للطّهارة والعدالة والصّداقة، والإنسان كالقاضي لابّد أن يدعو إلى المساواة والعدل بين النّاس جميعا، وتوجد صورة مكتوب في أسفلها: Khshatra Vairia، فشهريار عندهم الحاكم الحكيم، والشّمس الّتي على رأسه رمز للعقل والفكر الصّحيح، والسّيف رمز للحزم والدّفاع عن الذّات والبلد، وليس معناه البطش والحرب وقتل الآخر، والحلقة الّتي بيده رمز للعهد والوعد الّذي قطعه مع النّاس، وتوجد صورة أخرى لامرأة مكتوب أسفل منها Spenta Armaiti، وهي رمز للأرض والأمومة، وتوجد في داخلها من صدرها إلى أسفل قدميها صورة الجبال وهي رمز للاستقامة في الأرض والعائلة، والقصران اللّذان خلف صورة رأسها رمز لأصالة الأمومة في العائلة، وتوجد صور عديدة لها رمزياتها، وما أشرت إليه نموذجا لذلك.
ومررنا بعدها في المتحف إلى غرف فيها مجسّمات لعادات وتقاليد الزّرادشت، في اللّباس والطّبخ والزّواج والمياه، مثلا ملابس العلماء لديهم وتوجد بعض الملابس أو الإشارات المميزة لهم؛ لأنّه في بعض الفترات لا توجد حريّة ومساواة بين الجميع، فيتمّ تمييزهم عن غيرهم.
وهنا حدث نقاش عن التّعدّد عندهم، فبيّن أنّه لا يسمح في شريعتهم بالتّعدّد، والمرأة تسمّى عندهم ملكة الرّجل، والطّلاق لا يوجد إلّا في حالات قليلة، ويكره عندهم كراهة شديدة، وللمرأة عدّة كما في الإسلام، وعندهم إذا تزوّج الرّجل من غير ديانته؛ يخرج من ديانته، ولا يوجد لديهم ما يسمّى بالرّدة، ولا يوجد لديهم تبشير، ولا دخول في ديانتهم، فهم ديانة منغلقة على ذاتها، لكن يوجد محبّون لزرادشت وللزّرادشتيّة، ولهم جمعيّات في ذلك، ونرحبّ بهم، لكن لا نعتبرهم زرادشتيين من حيث الأصالة، ونحن نحترم الإنسانيّة جميعا، وعليه على كلّ واحد أن يعمل صالحا وفق ديانته، ولا توجد عندهم فكرة ختم النّبوّة؛ لأنّ الإنسان متطوّر، لكن جائز ذلك عند الله.