استضاف منتدى عفيفي مطر الروائي العراقي “برهان شاوي” للحديث عن العراق وتاريخه وواقعه وتحولاته بصيغة روائية. شهدت الأمسية التي عقدت في أتيليه “ضي” قراءات نقدية لإبداع “شاوي” من محمد عيد ابراهيم، والدكتور رضا عطية، وأسامة جاد، والباحث علاء ادريس، وقدم للندوة الشاعر والكاتب الصحفي محمد حربي.
برهان شاوي من مـواليد العراق – الكـوت – 1955،* بـدأ النشر في الصحافة العراقية والعربية منذ العام 1971، درس السينما في موسـكو ما بين 80 – 1986 وكتب أطروحته عن الأكراد في السينما الكردية في تركيا وايران والعراق. بعدها غادر روسيا (الأشتراكية) الى ألمانيا (الرأسمالية) لاجئا، عمل في التلفزيون الألماني، وأسس فرقة مسرح (زاغروس) من الممثلين الأكراد والأتراك والعرب والألمان في مدينة (ديسبورغ) وأخرج لهم مسرحيات عديدة بالألمانية والكردية والتركية، منها; (القائل نعم والقائل لا)، (الرجل الطيب من سشوان) لبريخت، و(اندروماك). اصدر مجموعات شعرية عديدة هي: مراثي الطوطم -83، رماد المجوسي 87، ضوء أسود 97؛ تراب الشمس 98؛ رماد القمر 99؛ شموع للسيدة السومرية 2001.
استهل الشاعر والكاتب الصحفي محمد حربي الندوة بتقديم برهان شاوي، المثقف والروائي والمترجم والإعلامي، قائلا: “تعرفنا عليه بالإمارات حينما كان يشرف على الملحق الثقافي لصحيفة الاتحاد الإماراتية، وعرفناه شاعرا قبل أن يهجر الشعر إلى المتاهات التي بدأت من آدم إلى حواء ومن ثم إبليس. يمكن القول بأن شاوي لم يهجر الشعر تمامًا كما صرح، فلم يستطع شاعر كتب قصيدة أن يهجر الشعر حتى لو ادعى ذلك، ففي كل رواية يكتبها يسرب أشواقه الشعرية فيها”.
يلفت حربي إلى أن “برهان شاوي” شاعر يفتح قوس السرد على آخره، ربما لأن الرؤية اتسعت فاتسعت معها العبارة، على عكس ما يقوله “النفري”، ففي الشعر تضيق العبارة، وتتكثف كقطرات الندى، تقول كل شيء ولا تقول شيئا، لكن الرواية هي المتاهة الجميلة التي تغري بما فيها من أحداث وشخصيات وأساطير. ويضيف: في متاهاته قدم رؤية للعالم وللتاريخ، فلم يتقيد بما جاء في الأثر وصنع هدية على ظلال الحقائق التي تتنزل الآن على الأرض. صارت متاهات برهان برهانا على ما يجري في العراق ولربما على ما يجري في مصر، هو المصري الذي يحمل جنسية عراقية، والعراقي الذي يكتب بلغة عربية تجمع الطوائف في متن واحد، رغم كل الطوائف وضده، فما يحدث في العراق من طائفية يكتبه الساسة بدمائنا، ويكتبه رجال الدين بصلواتنا ونُسكنا، لكن الروائيون يكتبونه بلغة الحقيقة”.
عتبة المتاهات
من جانبه، لفت شاوي إلى الصعوبة التي تكتنف حديثه عن الشعر في حين أن الأمسية ليست تجاه الشعر حتى نقدم نماذج منه، فضلا عن صعوبة التحدث عن 11 رواية وعن مشواره مع الشعر في آن واحد، وقال: سأبدأ بالحديث عن “مشرحة بغداد” وهي عتبة المتاهات.
وأضاف: توجهت إلى الرواية كشاعر، فقد أمضيت في كتابة الشعر ما يزيد على 40 عاما، وكل من يعرف تاريخ الرواية العالمية يعلم تمامًا أنه بدأ بشعراء، ففي الرواية الروسية ستجد “بوشكين” أبو الرواية الروسية، “ميخائيل ليرمونتيف” صاحب رواية “بطل من هذا الزمان”، ترجمت روايته إلى كل لغات العالم، ولو أخذنا الأدب الفرنسي “فيكتور هوجو” صاحب رواية “البؤساء” أهم شاعر في الرومانسية الفرنسية، “ميلان كونديرا” قد لا يعرف العديد من القراء أنه بدأ شاعرًا، والروائي الأمريكي “بول أستر” والذي يُعد واحدًا من أشهر مترجمي الشعر إلى اللغة الفرنسية، حتى “هوركي موركامي” الياباني بدأ شاعرًا. وعلى عكس ما قاله “النفري” كلما اتسعت الرؤية تفجرت الرواية وفاض الكلام، ليس كل شيء يمكن قوله من خلال القصيدة، هي تقطير للغة وتكثيف في الصورة، ربما تضيق العبارات في الشعر، لكن في الرواية على العكس.
السرد الشعري
ولفت “شاوي”، إلى أن السرد في تراثنا الشعري العربي قائم، فصلب القصيدة العربية لا يمكن وصفه إلا بالسرد الروائي، ونموذج “امرؤ القيس” في معلقته الشهيرة:
“ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة.. فقالت لك الويلات إنك مرجلي
تقول وقد مال العبيط بنا معا.. عقرت بعيري يا امرؤ القيس فانزل”
إلى قوله:
“إذا ما بكى من خلفها انصرفت.. له بشق وتحتي شقها لم يحول”
هذا مقطع يروي تفاصيل حكاية، ما أقصده أن الشعر يحمل في صلبه السرد، العديد من المقاطع في معلقة امرؤ القيس يبقى السرد فيها جزءًا لا يتجزأ منها، حتى مراثي الشعر العربي، تجد أن السرد موجود عبر قصائد أغلب شعرائها. وأذكر أنني في حوار مع الشاعر”سركون بولص” سألته ما أهمية “السياب”؟، فكان رده بأن السياب هو “شمشون الجبار” الذي هد معبد الخليل الفرهيدي، وأهم ما لدى السياب هو السرد.
والعلاقة بين الشعر وفنون أخرى مثل السينما والرواية هي طريقة السرد، ولا أنكر أنني دخلت إلى الرواية من باب الشعر، والموضوعات التي عالجتها واشتغلت عليها روائيا بذورها الأولى موجودة في الشعر، أسئلة الحياة والموت والوجود ومعناه هي ذاتها التي طرحتها مبكرا في الشعر، وتوسعت في طرحها ومعالجتها في الرواية.
من عام 2009 كرست جل وقتي للكتابة الروائية إلى جانب الترجمة فقد ترجمت 4 مجموعات شعرية من الروسية إلى العربية، بالإضافة إلى 4 مؤلفات علمية ترجمتها من الألمانية إلى العربية، عندي ثلاث كتب في السينما غير الكتب المتفرقة، منها كتاب في الفن التشكيلي مترجم، وكتاب تحت عنوان “تربية الممثل”.
روح الشعر
ولفت “شاوى” إلى أنه يتحفظ عندما يقدم على أساس أنه مترجم، “فأنا أترجم روح الشعر، ما أفعله في الترجمة نابع من أمنياتي لكتابة هذه القصائد”. وأضاف: هناك شعراء حياتهم تشبه القصائد الكبرى، نموذج رامبو، الشاعرة الروسية “آنا أخماتوفا” والتي لها مواقفها المعارضة للثورة البلشفية، ورغم طردها من اتحاد الكتاب السوفيتي، ورغم منع نشر قصائدها، لم تغادر روسيا حتى بعد إعدام زوجها، وقد ترجمت لها قصيدتها “قداس جنائزي”، والتي لو نشرت في وقتها لصارت مكانتها في الشعر العالمي تصل إلى “إليوت”.
نموذج آخر الشاعر “بروديسكى”، هو أحد شعراء الروس الكبار، قدم قصيدة بمثابة ملحمة تحت عنوان “إسحاق وإبراهيم” عدد أبياتها يزيد عن 600 بيت شعري، وكان يكتب الشعر العمودي، وجهت له العديد من التهم وسجن خمس سنوات، وأودع مستشفى الأمراض النفسية.
واستطرد “شاوي”: في عام 1980، تركت روسيا متجها إلى ألمانيا طالبا اللجوء السياسي، وذلك لصدور عدة أحكام ضدي من قبل السلطة العراقية، وصلت إلى حد الإعدام. انتهيت من الدراسة في موسكو، واتجهت إلى المانيا وطلبت حق اللجوء السياسي. كانت عائلة “بيتر برونبرج” المتحصل على جائزة نوبل يمنحون منحة في الأدب، تحصلت عليها وكتبت روايتي الأولى “الجحيم المقدس” عام 86، وكتب على غلافها رواية سينمائية، ما أثار حفيظة بعض النقاد، رغم أن هذه الرواية تعتمد في بنيانها السردي على جماليات اللغة السينمائية، وتعتمد السيناريو كنوع جديد في الأدب، والأدب العربي فيه كثير من الأعمال الروائية إذا نظرت إلى كتابتها تجدها سيناريوهات، نموذج أغلب أعمال الكويتي فهد إسماعيل، حتى نجيب محفوظ في روايته “تحت المظلة”، ” القط الأسود” هي مجرد سيناريوهات وليست روايات بالمعنى الحقيقي لفن الرواية.
سؤال الوجود والعدم
وفي معرض أشارته إلى تجربته في موسكو وبدايات انشغاله بسؤال الوجود والعدم ، قال الشاوي: كانت زوجتي تدرس الطب، طلبت منها الدخول إلى قاعة التشريح، وبالفعل ذهبت إلى الجامعة باعتباري طالب ودخلت غرفة تشريح الجثث، شاهدت بنفسي خطوات التشريح، صمدت في مشاهداتي حتى تشريح الجثة التاسعة، وطلبت ان اخرج لأستريح بسبب ما بدا على وجهي من إرهاق وانزعاج. هذه الحادثة استعدتها في روايتي “مشرحة بغداد”، ولكن في اطار ورؤية فانتازيا. ومن ثم بدأت اسئلة الحياة والموت ،الوجود والعدم أكثر الحاحا فبدأت أعادة قراءة العديد من الكتابات والمراجع في التاريخ الفلسفي والأدبي التي تنشغل بطرح هذه القضايا، فكانت البداية مع “متاهة آدم”، ومن ثم توالت المتاهات.
وقال “الشاوي”، إن أغلب أعماله كسرت ما يسمي محرمات “الثالوث المقدس”، “في التراث الإسلامي لم تكن هذه من المحرمات، على الجانب السياسي ستجد أن 4 من الخلفاء قتلوا، ما يدلل على أن تاريخنا السياسي غارق بصفحات من العنف والدم، أما الجانب المقدس فنجد أن كل حركات التصوف الإسلامي مشغولة بفهم ومعرفة المقدس وأحيانا نسفه، أما عن الجنس واستخداماته، فمن طالع ألف ليلة وليلة في طبعتها الأولى مطبعة بولاق، سيعرف تمامًا أن ثمة نسف لما يشار إليه بالمحرمات”. وختم شاوي: “في متاهاتي أتوغل في هذه المناطق المحرمة، والآن أشتغل على كتابة المتاهة التاسعة “العدم العظيم “.
ملحمة المتاهات
من جانبه، قال الشاعر والمترجم أسامة جاد إن الرواية السينمائية غالبا ما تتحدث شخصياتها بمقولات تحمل أفكار الروائي، معتبرا أن روايات شاوي أغلبها صالح للنقل كعمل سينمائي. واشار إلى تعدد مشارب شاوي، كسينمائي وروائي وشاعر وخبير في مجال الإعلام، وتأثير ذلك على التكنيك الذي يستخدمه في الكتابة، معتبرا أن ما قدمه شاوي في “المتاهات “هو بمثابة ملحمة كبري، تضيف للمكتبة العربية بعد ملحمة “الحرافيش” لمحفوظ ، وملحمة “المجوس” للكوني.
بدوره، أبدى الشاعر والمترجم “محمد عيد إبراهيم” اتفاقه مع شاوي في أن الشاعر الحقيقي هو من يجيد التعامل مع السرد، لافتا إلى أن نمط كتابة قصيدة النثر الحديثة يعكس كيف يتوالد السرد داخل القصيدة لدرجة الحيرة بين تصنيفها قصيدة أم قصة.