في وقت تسعى فيه إيطاليا إلى تعزيز حضورها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خاصة مع تراجع الدور الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي، زارت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، الأربعاء 17 أبريل الماضي، تونس للقاء الرئيس قيس سعيد من أجل التباحث حول مسألة مكافحة الهجرة غير النظامية، والأهم “إشراك المنظمات الدولية للعمل على عمليات إعادة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية.. وهي الزيارة الرابعة في أقل من عام.
وتأتي زيارة ميلوني قبل حوالي شهرين من الانتخابات الأوروبية، حيث أصبحت قضية الهجرة غير النظامية إلى القارة الأوروبية واحدة من أكثر القضايا إلحاحًا على ساحة العمل الأوروبي؛ وهو ما دفع ميلوني إلى التصريح بأن “مكافحة الهجرة غير النظامية تتطلب تنمية البلدان الأفريقية، واستثمارات تسعى إلى تعزيز هذا النهج على المستوى الأوروبي”.
وفي نفس يوم الزيارة، وقِّع على “ثلاث” اتفاقيات، وهي مساعدة بقيمة 50 مليون يورو للميزانية التونسية لفائدة مشاريع الطاقة، وخط ائتماني بقيمة 55 مليون يورو للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، واتفاقية تعاون جامعي. ووفقًا لرئيسة الوزراء الإيطالية، فإن هذه الاتفاقيات سوف تتبعها اتفاقيات أخرى، لاسيما في المجال العسكري.
والواقع أن هذا التحرك الإيطالي، في الاتجاه التونسي تحديدًا، يأتي لتفعيل عدد من الملفات الحيوية، بالنسبة إلى السياسة الخارجية الإيطالية.. لعل أهمها ما يلي:
فهناك المسألة الأساسية المتعلقة بـ”ضبط تدفقات الهجرة غير النظامية”؛ حيث يُشكل هذا الملف واحدًا من أهم أولويات روما حاليًا. إذ، تواصل روما، منذ عدة أشهر، ضغوطًا قوية على الاتحاد الأوروبي من أجل تقديم دعم اقتصادي إلى تونس، وتعزيز قدرتها على احتواء تداعيات الأزمة الاقتصادية، التي يُمكن أن تعوق قدرة الحكومة على منع تدفق الهجرة من السواحل التونسية إلى القارة الأوروبية؛ خاصة أن تونس أصبحت تُشكل معبرًا رئيسًا للهجرة غير النظامية إلى دول الاتحاد الأوروبي.
ووفقًا لتقديرات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فقد بلغ عدد المهاجرين غير النظاميين، الذي وصلوا إيطاليا عبر السواحل التونسية، في نهاية عام 2023، أكثر من 17 ألفًا، من بينهم أكثر من 4 آلاف قاصر.
أيضا هناك ضمن أسباب الاهتمام الإيطالي بالتوجه إلى تونس، محاولة اقناع الحكومة التونسية بالموافقة على إنشاء “مراكز احتجاز” للمهاجرين غير النظاميين في تونس على غرار تلك الموجودة في إيطاليا.
وبالرغم من تصريحات الرئيس التونسي، في 14 أبريل الماضي، والتي استبق بها زيارة ميلوني إلى بلاده، وأعلن من خلالها رفض تونس أن تكون معبرًا أو مستقرًا للهجرة غير النظامية، وذلك كرد فعل على توجه الدول الأوروبية إلى إجراء تعديل في السياسات الخاصة بالهجرة، بحيث يتضمن هذا التعديل ترحيل المهاجرين، إما إلى بلدانهم الأصلية أو إلى دول العبور التي وصلوا عبرها.. رغم ذلك، فإن روما تواصل ضغوطها في هذا الاتجاه، لاسيما أن تونس أصبحت نقطة رئيسة في الهجرة غير النظامية، من أفريقيا إلى أوروبا.
ثم، يأتي بعد ذلك تعميق العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري؛ إذ، ضمن أهم الأسباب التي دفعت جورجيا ميلوني، التي تقود ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، إلى زيارة تونس أكثر من مرة، تأتي المحاولة الإيطالية في تحييد الحضور الفرنسي في منطقة الشمال الأفريقي.
إذ، بعد تراجع نفوذها التقليدي في غرب أفريقيا، خاصة بعد الانقلابات العسكرية المتتالية، التي شهدتها مالي وبوركينا فاسو والنيجر، عملت باريس على تطوير علاقاتها مع دول المغرب العربي، خاصة تونس التي تُعتبر شريكًا رئيسًا لها. بل إن باريس ترى في ملف الهجرة غير النظامية مدخلًا مناسبًا، في محاولة ترسيخ علاقاتها مع تونس. إذ يكفي أن نُلاحظ إعلان الوكالة الفرنسية للتنمية، في 28 مارس الماضي، عن تخصيص مساعدات مالية للحكومة التونسية، بقيمة 5 ملايين يورو، على هيئة “هبة” لصالح تعزيز حوكمة الهجرة غير النظامية.
ومن ثم، يُمكن فهم التحركات الإيطالية نحو تأمين علاقاتها مع تونس، خاصة أن تنمية النفوذ الفرنسي في هذا البلد سيكون له بالغ الأثر على علاقات روما معه؛ بل ومع دول الشمال الأفريقي عموما.
وبكلمة، فإن هناك محاولة إيطالية حثيثة لملء فراغ التراجع الفرنسي في أفريقيا؛ فالتكرار في زيارات ميلوني إلى تونس تحديدا، تأتي لتؤكد على محاولة إيطاليا في ملء الفراغ الذي سببه التراجع الفرنسي، خاصة في منطقة الساحل الأفريقي، واحتواء الإرباك الذي تسبب به التنافس الفرنسي الإيطالي بخصوص عموم منطقة الساحل، عبر تقديم مقاربة جديدة لتواجد إيطاليا في القارة الأفريقية، وتقوية نفوذها فيها.
في هذا السياق، يمكن القول بأن ثمة تطلعات إيطالية، لا تستهدف فقط تعزيز الدور التونسي في عمليات مكافحة الهجرة غير النظامية، التي تفرض عددًا من التحديات الأمنية والاقتصادية على حكومة ميلوني؛ بل تستهدف أيضا، تنامي الحضور الإيطالي في منطقة الشمال الأفريقي، وخاصة في تونس، في ظل سعي العديد من القوى الدولية لتقوية نفوذها هناك.
هذا، فضلًا عن تبني سياسات جديدة في مواجهة الهجرة غير النظامية، ومكافحة الإرهاب العابر للحدود، خاصة أن هذه الملفات تؤرق الدولة الإيطالية، نظرًا لقربها الجغرافي من شواطئ شمال أفريقيا، وتحديدًا تونس؛ وبالتالي، تضغط إيطاليا بشدة داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، لتقديم مساعدات عاجلة إلى تونس، التي تعاني أزمة مالية غير مسبوقة؛ وفي الوقت نفسه، تدفع في اتجاه إقناع صندوق النقد الدولي للموافقة على منح تونس قرضًا بقيمة 1.9 مليار دولار.
ذلك كله من أجل أن تستطيع الحكومة التونسية مكافحة عمليات الهجرة غير النظامية، في محاولة من حكومة ميلوني لاستعادة شعبيتها التي فقدت جزءا كبيرا منها، بسبب الفشل في معالجة هذا الملف. ولعل ذلك ما بدا بوضوح في الحملة التي قامت بها وسائل إعلام إيطالية محلية، اتهمت فيها جورجيا ميلوني بالفشل في التصدي لعمليات الهجرة غير النظامية، وتزايد أعداد المهاجرية الأفارقة إلى إيطاليا.