رؤى

عمارة الأرض.. والتوازن المجتمعي في التنزيل الحكيم

إذا كانت “عمارة الأرض” بوصفها قاعدة اجتماعية ينبني عليها الهدف من التقدم الإنساني والمجتمعي عمومًا، لا يمكن فصلها عن مضمون استخلاف الله سبحانه وتعالى للإنسان، وجعله خليفة في الأرض، وذلك كما قوله سبحانه: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” [البقرة: 30].

إذا كان ذلك كذلك، فإن التقدم الإنساني، بوصفه عملية هدفها تعمير الأرض، إنما تلتقي مع القصد من أن الله عز وجل قد سخر لهذا الخليفة (الإنسان)، ما في السموات والأرض ليستفيد منها وينعم بخيراتها ويسبح بحمده، كما في قوله تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الجاثية: 13]. ومن ثم، يتمكن “الإنسان/الخليفة”، وعن طريق هذا التسخير، من تحقيق القصد من الاستخلاف وأداء مهمته في تعمير الأرض.

لذا، يبدو أن ثمة ارتباط بين “تعمير الأرض”، كعملية ذات بُعد مستقبلي، تحتاج إلى تخطيط إنساني لتنفيذها، وبين مسألة الموارد، وهل هي كافية للإنسان والمجتمع، وللاحتياجات الإنسانية المتجددة.

مثل هذا الارتباط، بين تعمير الأرض والموارد، في الإسلام، مُضافًا إليهما الحاجات الإنسانية التي تحتاج إلى “إشباع”، يًمثل دائرة تتقاطعها دوائر ثلاث: الموارد والإنتاج، الحاجة والإشباع، التوزيع والاستهلاك.. على أساس إرساء هذه الدوائر الثلاث على قواعد ثلاث، تنبع من نظرة الإسلام العامة إلى الإنسان والمجتمع والكون.

وفي حديث سابق، على موقع “أصوات أونلاين”، تناولنا القاعدة الأولى.. قاعدة الموارد والإنتاج؛ ويكون علينا هنا أن نستكمل الحديث عن القاعدتين الثانية والثالثة.

الحاجة والإشباع

أما عن القاعدة الثانية، قاعدة “تجدد الحاجة ومحدودية الإشباع”، فهي تلك التي يرسي الإسلام دائرة “الحاجة والإشباع” عليها، هذه الدائرة التي تُمثل أهم المشكلات في أي مجتمع. بل إنها الدائرة التي شهدت أكبر قدر من “الخلط” بين مكوناتها، عند معظم المتحدثين عن المسألة المجتمعية من منظور الاقتصاد والمشكلة الاقتصادية وعلم الاقتصاد (وخاصة الوضعي).

والواقع، إن هذا الخلط إنما يأتي من الحديث عن كل من الحاجة والإشباع بوصفها مترادفات، وليس عمليتين إنسانيتين متتاليتين؛ ومن ثم نشأ الخلاف بين المتحدثين عن الاقتصاد، بصفة عامة، بين فريق يرى أن “الحاجة والإشباع”، غير محدودة، وبين فريق يرى أنها محدودة.

فإذا عرفنا، من جهة، أن لكل إنسان طاقة معينة لا يستطيع تجاوزها، من حيث القدرة على الاستمتاع والقدرة على المعاناة، بمعنى أن لكل فرد حدًا أقصى لما يمكن أن يجنيه في الحياة من متعة، وحدًا أقصى لما يمكن أن يتحمله من ألم.. وإذا لاحظنا، في الوقت نفسه، أنه ما بين الحدود الدنيا والقصوى لهذه الطاقة، يختلف الأفراد في قدراتهم المادية والمعنوية على السواء.. لكان علينا أن نعرف، أن حياة الإنسان المحدودة تقتضي أن يكون الوقت المتاح له محدودًا، وهو عنصر لازم لاستهلاك أي سلعة أو خدمة.

يقول سبحانه: “وَآيَةٌ لَهُمْ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ • وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ • لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ”  [يس: 33ـ35].. ويقول تعالى: “وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” [الأنعام: 141].

ثم.. إذا عرفنا، من جهة أخرى، أن “الحاجة” هي مشكلة “إنسانية”، تتطلب ضرورة أن يقوم الإنسان بحلها (كالحاجة إلى الطعام والشراب، والحاجة إلى التزاوج.. إلخ)؛ وإذا لاحظنا أيضًا أن هذا الحل الإنساني ما هو إلا إشباع هذه الحاجة، أو محاولة إشباعها بالأحرى.. لكان علينا أن نعرف أن الحاجات الإنسانية، وإن كانت متجددة، أي مستمرة ومتتالية، فإن إشباع هذه الحاجات يظل ـ في حقيقته ـ محدودًا، إذا ما أضفنا أبعاد المكان والزمان، كأبعاد تساهم في توضيح المشكلة الحاجات الإنسانية.

مؤدى ذلك، أن ثمة حدودًا تحد الحاجات الإنسانية المتجددة، وأن ثمة حدودًا كذلك، تحد درجة إشباع هذه الحاجات؛ وبالتالي، يكون تعبير حاجات الإنسان غير المحدودة، التي تقول به معظم الاقتصادات الوضعية، في غير محله.

وهنا لنا أن نلاحظ دلالات قوله سبحانه: “أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ” [الزخرف: 32].. التي تتكامل مع دلالات قوله تعالى: “وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى • وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى” [النجم: 39ـ40].

التوزيع الاستهلاك

وأما القاعدة الثالثة، قاعدة “عدالة التوزيع وترشيد الاستهلاك”، فهي تلك التي وإن كانت ترتكز عليها دائرة التوزيع والاستهلاك، وما يسبقهما من الإنتاج فإنها – في الوقت نفسه- تشير إلى الصلة، في نظر الإسلام، بين الإنتاج والتوزيع، وبينهما وبين الاستهلاك.

فالصلة بين الإنتاج والتوزيع في الإسلام، ليست علاقة تبعية، وإنما هي صلة يفرضها ـ إذا جاز لنا التعبير ـ الكيفية التي يتحدد فيها الإنتاج لحساب التوزيع، بدلًا من تكييف التوزيع طبقًا لحاجات الإنتاج، كما تقرره الاقتصادات الوضعية.

والواقع، أن الصلة بين الإنتاج والتوزيع، في الإسلام، إنما تُرَد في الحقيقة إلى فكرة التطبيق الموجه التي تحدد الإنتاج (بوصفه: عملية تطبيق لقواعد التوزيع)، تحديدًا يضمن عدالة التوزيع واتساقه مع مُثُل الإسلام وأهدافه.

وفي هذا الخصوص، نجد أن الإسلام يطرح ضرورة مراعاة مبدأ الإيراد أو الربح، الاجتماعي، وليس الإيراد أو الربح، الشخصي فقط؛ فقد يحقق إنتاج سلعة معينة رواجًا للمنتج أو البائع الموزع، في الوقت الذي تُلحِق فيه هذه السلعة أضرارًا كبيرة بالمجتمع. ومن البديهي، أن هذه الأضرار قد لا تكون أضرارًا مادية فقط، بل قد تشمل أضرارًا أخرى: كالمساس بالعقيدة أو بأخلاق المجتمع.. الخمور، أحد الأمثلة.

يقول سبحانه وتعالى: “فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ” [النحل: 114].. ويقول تعالى: “وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ” [هود: 85].. ويقول سبحانه: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” [النحل: 90].. ويقول: “أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ • وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ • وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ” [الشعراء: 181ـ 183].

هذا وإن كان يشير إلى أن تطور الإنتاج ونموه لابد من أن يتلازم مع توجيه الإنتاج، في إطار من تطبيق القواعد العامة للتوزيع، أو قل مراعاة الربح الاجتماعي في توجيه الإنتاج وعدالة التوزيع.. إلا أنه كذلك يؤكد على الصلة بين هذه وذلك العدالة والتوجيه، وبين ترشيد الاستهلاك.

ولعل ذلك يتبدى واضحًا إذا لاحظنا الكيفية التي ينظر بها الإسلام إلى هذا الأخير: ترشيد الاستهلاك.. إذ النظر هنا يعتمد على التوازن.. يقول سبحانه وتعالى: “وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا” [الإسراء: 29].. ويقول تعالى: “وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا” [الفرقان: 67].

ولعل “التوازن”، المشار إليه، إنما يقوم على أكثر من جانب: فهناك الجانب الخاص بتحريم التبذير، كما في قوله سبحانه: “إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا” [الإسراء:27].. وهناك الجانب المتعلق بالحجر على السفهاء الذين يصرفون أموالهم على غير مقتضى العقل، كما في قوله تعالى: “وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا” [النساء: 5].. وهناك الجانب المتمحور حول النهي الشديد عن الترف والبذخ واعتباره جريمة، كما في قوله: “فَلَوْلَا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ” [هود: 116].

بيد أن هذا التوازن، المرتبط منطقيًا بالصلة، في نظر الإسلام، بين توجيه الإنتاج وعدالة التوزيع وترشيد الاستهلاك؛ هو، في حد ذاته، يأتي ضمن الأسس التي يعتمد عليها التأمين الاجتماعي والتكافل الاجتماعي.. وليس الأخير فقط كما يتصور الكثيرون.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock