في الحديث حول دلالة مصطلح “ٱلۡكِتَٰبُ”، وصلنا إلى أنه من الخطأ أن نظن أنه عندما ترد كلمة “كتاب” في المُصحف، أنها تعني كل المُصحف؛ لأن الآيات الموجودة بين دفتي المُصحف، من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس، تحتوي على عدة “كُتب” (مواضيع)، مثل: “كتاب الصلاة” و”كتاب الموت”؛ كما في قوله سبحانه: “إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا” [النساء: 103]؛ وكما في قوله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ كِتَٰبٗا مُّؤَجَّلٗاۗ” [آل عمران: 145].
كما أكدنا على أن مثل هذه الكتب، تأتي ضمن كتب مُتعددة تتضمنها آيات التنزيل الحكيم؛ كما يؤكد ذلك قوله عزَّ من قائل: “رَسُولٞ مِّنَ ٱللَّهِ يَتۡلُواْ صُحُفٗا مُّطَهَّرَةٗ ٭ فِيهَا كُتُبٞ قَيِّمَةٞ” [البينة: 2-3]؛ بمعنى أن كل كتاب من هذه الكتب يتضمن عدة كتب؛ فمثلًا، كتاب العبادات يحتوي على كتاب الصلاة وكتاب الصوم وكتاب الزكاة وكتاب الحج.. وهكذا.
وبالرغم من اتفاقنا مع أطروحة المفكر السوري محمد شحرور -رحمه الله- أن من الخطأ الظن أنه عندما ترد كلمة “كتاب” في المُصحف، أنها تعني كل المُصحف؛ إلا أن الاختلاف بيننا وبين شحرور، يتعلق بالحال الذي يَرِد فيه مصطلح “ٱلۡكِتَٰبُ” مُعرَّفًا؛ إذ في هذه الحال فهو لا يحتاج إلى تعريف، فضلا عن أنه يعني آيات التنزيل الحكيم، وموضوعاتها، التي أُوحيت إلى الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام؛ كما في قوله سبحانه: “الٓمٓ ٭ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ ٭ نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ ٭ مِن قَبۡلُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ” [آل عمران: 1-4].
وبناء على اللسان القرءاني، قواعده ومحاولة تدبره، نستمر في محاولاتنا المتتالية لدراسة التقديم والتأخير، كمقدمة في علم الدلالة القرءانية. وهنا لنا أن نقترب من التعبير القرءاني “خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ”، الذي يأتي في موضع ليتقدم على صيغة التوحيد القرءانية “لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ”، كما في قوله سبحانه: “ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ” [غافر: 62].
بينما في موضع آخر، يأتي ليتأخر عن الصيغة القرءانية في التوحيد، كما في قوله تعالى: “ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ فَٱعۡبُدُوهُۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٞ” [الأنعام: 102].
بداية، لنا أن نؤكد على أن صيغة التوحيد القرءانية “لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ”، التي تأتي عبر صيغة النفي “لَآ” والاستثناء “إِلَّا”، هي أقوى صيغة من صيغ الحصر في اللسان القرءاني؛ إذ إنها الصيغة التي وردت في أكثر من موضع في آيات التنزيل الحكيم، للتأكيد على التوحيد؛ كما في قوله عزَّ وجل: “فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ” [محمد: 19].
ثم هنا لنا أن نُلاحظ كيف يؤثر السياق القرءاني في الدلالات التي يكتسبها المصطلح القرءاني، في تفاعلاته مع هذا السياق؛ وذلك عبر إحدى اُسس اللسان القرءاني في التقديم والتأخير.
إذ من خلال السياق القرءاني في سورة “الأنعام” يأتي الإنكار على الشرك والدعوة إلى التوحيد الخاص، ونفي الصاحبة والولد عن المولى سبحانه وتعالى؛ لذلك، يأتي تقديم منهجية “التوحيد” وصياغته القرءانية “لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ”، على منهجية “الخلق” الإلهي “خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ”.
وهو ما يتبدى بوضوح في قوله سبحانه: “وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلۡجِنَّ وَخَلَقَهُمۡۖ وَخَرَقُواْ لَهُۥ بَنِينَ وَبَنَٰتِۭ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ٭ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ صَٰحِبَةٞۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ٭ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ فَٱعۡبُدُوهُۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٞ ٭ لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ” [الأنعام: 100-103].
بل، إن الجدير بالتأمل، هنا، أن صفة الإله الأعظم “بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ”، قد تقدمت على نفي الولد والصاحبة “أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ صَٰحِبَةٞۖ”؛ وفي الوقت نفسه، تتقدم هذه الصفة على “الخلق” الإلهي “وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖۖ”.
أما في سورة “غافر”، يأتي السياق مُتضمنًا الحديث عن “الخلق” الإلهي “لَخَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَكۡبَرُ مِنۡ خَلۡقِ ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ” [غافر: 57]؛ وأيضًا، تعداد “النعم” التي وهبها سبحانه وتعالى للناس “ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ” [غافر: 61]. هذا فضلا عن التأكيد على مسألة “الدعاء” والاستجابة الإلهية له “وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ…” [غافر: 60].
وبالتالي، ففي هذا السياق تأتي منهجية “الخلق” الإلهي “خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ”، لتتقدم على منهجية “التوحيد” وصياغته القرءانية “لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ”؛ كما في قوله سبحانه: “ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ” [غافر: 62]. وهذه مسألة، من المنظور الدلالي، منطقية في إطار السياق القرءاني الذي يؤكد على عدة أمور؛ من بينها: “وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ”، وأيضًا “وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ”؛ ثم، “وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ”.
وهو السياق الذي يتبدى عبر قوله عزَّ من قائل: “لَخَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَكۡبَرُ مِنۡ خَلۡقِ ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٭ وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَلَا ٱلۡمُسِيٓءُۚ قَلِيلٗا مَّا تَتَذَكَّرُونَ ٭ إِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَأٓتِيَةٞ لَّا رَيۡبَ فِيهَا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ ٭ وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٭ ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ ٭ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ” [غافر: 57-62].
وللحديث بقية.