بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عروبة 22
خيّم الحزن والكآبة والشعور بالعار والخزي على الإسرائيليين في الذكرى الـ٧٦ لنشأة دولتهم الغاصبة، تسبب ذلك في تحوّل الاحتفال بهذا اليوم من يوم عيد كانوا يتفاخرون فيه بـ”إنجازهم الاقتصادي والتكنولوجي وخضوع السلطة الفلسطينية لإرادة جيشهم وخضوع عرب كثر للتطبيع المجاني معهم إلى يوم مأتم منصوب”.
في كل يوم يفقد الإسرائيليون جزءًا من الثقة في قادتهم بالجيش والسياسة، ويزداد شعورهم بعدم اليقين في مستقبلهم ومستقبل الدولة. حسب استطلاعات الرأي فإنّ قسمًا وازنًا منهم يسعى إلى الفرار من بلد لم يعد آمنًا.
بعد “طوفان الأقصى”، وهو الفالق الزلزالي الأخطر الذي أكمل الصدع في بنية الكيان الإسرائيلي والذي ينخر في أساسه منذ فترة، أصبح خيار “زوال إسرائيل” محتملًا جدًا، بل وأكاد أذهب إلى ما ذهب إليه البروفسور الإسرائيلي التقدمي إيلان بابيه من أنّ مسار الزوال التدريجي بات الخيار المرجح.
في الشهور التسعة الأولى من العام الماضي، وقبل “طوفان الأقص” كانت إسرائيل تعيش انقسامًا داخليًا حادًا بلوره مشروع النظام القضائي الذي قدّمه نتنياهو.
أثبت هذا؛ الاستقطاب الحاد في المجتمع الذي عبّرت عنه مظاهرات شعبية يومية رافضة للقرار الذي يدمّر النظام الديمقراطي الذي “يتمتع به اليهود فقط”، كما أثبته وعبّر عنه انضمام قيادة المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية بشكل غير مباشر ولكن صريح للمتظاهرين لأنها كانت تعلم أنّ ذلك قد يقوّض العلاقات مع الحليف الضامن لوجود الكيان وهي الولايات المتحدة التي انتقدت المشروع القضائي.
لكن النتيجة كانت تهاوي الوحدة داخل النظام السياسي الإسرائيلي، وانتقال الانقسام من المجتمع إلى جهاز الدولة نفسه بصراع بين قيادة المستوى السياسي للحكومة وأحزابها من جهة، وقيادة المستوى العسكري والأمني من جهة أخرى.
أبان هذا الانقسام حينها حجم التحوّل الذي حصل في إسرائيل خلال العقود الأخيرة والذي تمثّل في واقع أنّ اليمين الإسرائيلي لم ينتصر على اليسار ويسحقه فحسب بل أنّ داخل معسكر اليمين نفسه قام اليمين الديني المتطرّف بالقضاء تمامًا على اليمين القومي القديم.
بعبارة أخرى ضاعت علمانية الدولة الإسرائيلية أمام ثيولوجيتها الدينية وتم تديين الدولة والمجتمع، أو كما قال كاتب إسرائيلي مؤخرًا “لقد سقط تعهد هرتزل لأساس الدولة الذي قال فيه: لن نسمح لرجال الدين برفع الرأس.. نحن سنعرف كيف نحصرهم في الكنيس”.
في يونيو/حزيران الماضي، حذر نفتالي بينيت صراحة من حرب أهلية تتجه إليها إسرائيل، كما حذر أيهود باراك -حسب الخرافة اليهودية- من أنّ إسرئيل قد تصاب بلعنة الثمانين عامًا التي سقطت الدولتان السابقتان قبل بلوغها.
عندما اندلع “طوفان الأقصى” بعد شهور من إنذارات بينيت وباراك، بدا لوهلة أنّ الانقسام بين الدينيين والعلمانيين وبين الجيش والحكومة قد زال، وأنّ المجتمع والدولة في إسرائيل توحدا تحت راية أهداف الحرب على غزّة والسعي لسحق المقاومة الفلسطينية واستعادة الأسرى الإسرائيليين لديها.
لكن بعد شهرين أو ثلاثة أشهر من إخفاق الجيش الإسرائيلي في سحق المقاومة أو استعادة مخطوف واحد حي، تحوّل الانقسام القديم إلى شرخ غير قابل للالتئام.
تحوّلت إسرائيل لبلدين ومجتمعين لدرجة أنّ كاتبًا إسرائيليًا، وهو آلون بنكاس، وصل في إحيائه للذكرى الـ٧٦ إلى القول إن “لا وجود الآن في الواقع لدولة واحدة تسمى إسرائيل”. ويرى أنّ إسرائيل الآن هي عبارة عن دولتين منفصلتين شعوريًا وأيديولوجيًا، هما دولة إسرائيل العلمانية التي تأسست عام 1948، ودولة يهودا الدينية التي توشك أن تستولي عليها في الوقت الحالي.
كل هذا الانقسام بل الانشطار الرأسي والأفقي ربما يمكن لمجتمع تحمّله عندما يكون في زمن السلم، ولكن عندما يحدث ذلك في زمن الحرب فإنّ العواقب تكون خطيرة وربما وجودية.
في مواجهة “طوفان الأقصى” انقسم المجتمع الإسرائيلي إلى قسم يريد استعادة المخطوفين (المدنيون وأهالي المخطوفين)، حتى لو كان الثمن صفقة هدنة أو وقف طويل لإطلاق النار، وقسم آخر مستعد للتضحية بالمخطوفين ويريد استمرار الحرب حتى سحق المقاومة.
“الجيش الإسرائيلي والعلمانيون” هم طرف يريد حربًا تحقق الأهداف المعلنة ولكن بدون التصادم مع سياسة أمريكا الرامية لمنع نشوب حرب إقليمية، بما يمهّد لشرق أوسط جديد تندمج فيه إسرائيل غصبًا في المنطقة يقوم على تطبيع مع السعودية يقود لحلف ضد إيران، يواجهه طرف آخر تمثله الحكومة اليمينية المتطرّفة التي تريد حربًا إقليمية تشعل الشرق الأوسط ومعركة صفرية تبيد فيها من تستطيع من الفلسطينيين وتهجّر قسريًا الباقي.
التلاسن العلني بين رئيس الأركان ووزير الدفاع من جهة ورئيس الوزراء نتنياهو وتحميل كل منهما الآخر المسؤولية عن الفشل العسكري على الأرض وتحوّل غزّة لحرب استنزاف لإسرائيل، أو الفشل السياسي بعزلة إسرائيل دوليًا وانقلاب شباب وشعوب العالم على دولة تمارس إبادة جماعية، هو مؤشر على ما وصلت إليه الدولة الإسرائيلية من تصدع وانهيار.
لكن الأخطر في ذلك هو قانون التاريخ الصارم، أنه لم ينتصر أي بلد إطلاقًا في أي حرب وهو منقسم على نفسه كمجتمع وعلى نفسه كقيادة بين الساسة والعسكر.
هنا يصبح الإدراك الإسرائيلي المتزايد باستحالة النصر في حرب غزّة غير مرتبط فحسب ببسالة المقاومة الأسطوري حتى الآن، ولكن أيضًا بمرارتهم من شواهد انقسام مجتمعهم ودولتهم عسكريًا وسياسيًا ومجتمعيًا وإعلاميًا حول كل شيء من أول مسار الحرب ومفاوضات الهدنة وصولًا إلى ما يُسمى بـ”اليوم التالي”.
انقسام وصل إلى حد قول جنرال مثل يتسحاق بريك إنّ هزيمتنا أمام “حماس” مؤكدة وتوجهنا كدولة نحو كارثة محققة إذا ظل نتنياهو وغالانت وهاليفي وآيزنكوت وغانتس يقودون مجلس الحرب.
معسكر يرى أنه لا سبيل لوقف ذلك إلا وقف الحرب وتبادل الأسرى وقبول واقع استحالة هزيمة “حماس” هذه المرة والتركيز على فترة لإعادة بناء الجيش والاستعداد لحرب إقليمية قادمة لا محالة، المعسكر الآخر من أعضاء الحكومة المتطرفين يرى العكس وهو أنه لا بد من مواصلة الحرب في غزّة إلى النهاية وعدم الاستماع إلى بايدن أو إلى واقع أنّ إسرائيل باتت منبوذة ومكروهة دوليًا.
اليمينيون المتطرّفون يرون المدنيين وأهالي المختطفين وقادة الجيش والأمن السابقين الذين يعارضون عملية “رفح” خونة، أما المدنيون والعلمانيون فيرون أنّ رجال اليمين الديني المتطرّف هم الطابور الخامس من العملاء الذي استولى على دولة علمانية وديموقراطية ترتبط بالغرب بحبل سري. اللافت أنّ كليهما يتفقان على خطر الزوال، وأنّ دولتهم دخلت متاهة استراتيجية تهدد وجودها.
لهذا يصل “تقدير الموقف” هذا إلى استنتاج رئيسي، أنّ الإدراك الإسرائيلي لواقع أنّ فجوة الانقسام غير القابلة للردم لن تسمح لهم بتحقيق أي نصر في حرب غزّة هو السبب الحقيقي لشعورهم اليوم أنهم في نكبة لا تقل مرارةً وعارًا وخزيًا عن تلك التي أذاقوها الفلسطينيين قبل ستة وسبعين عامًا.