في حديثنا السابق حول العلاقة بين النفس، وبين ثلاثية “الخلق والجعل والإنشاء”؛ وصلنا إلى أن النفس الإنسانية هي ذات الإنسان الحية والفاعلة؛ بل والمُكَلَفة بمهام الاستخلاف؛ إذ يوضح التنزيل الحكيم أن كل ما يعود إلى الإنسان من حياة وموت وتكليف وبعث، إنما يعود إلى النفس ولا علاقة له بالروح، أو الجسم.
يقول سبحانه وتعالى: “رَّبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمۡۚ إِن تَكُونُواْ صَٰلِحِينَ فَإِنَّهُۥ كَانَ لِلۡأَوَّٰبِينَ غَفُورٗا” [الإسراء: 25] ويقول سبحانه: “كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ…” [آل عمران: 185]
ولأن التكليف مرتبط بالنفس، وكذلك الكسب وأجره، سواء كان ثوابا أم عقابا، كما في قوله تعالى: “لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ” [البقرة: 286] لذلك فهي مُرَكَّبة عبر التقابل بين توجهين هما الفجور والتقوى. ففي قوله تبارك وتعالى: “وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا ٭ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا” [الشمس: 7-8] تأكيد على قابلية النفس ـ بحكم تركيبها ـ لأن تنقسم على نفسها؛ فالتسوية الإلهية للنفس، إنما تأتي عبر إلهامها “فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا”.
وبالتالي، فإن حياة الإنسان تكون من خلال نفسه، وفاعليته تتمثل في مدى مقدرته على القيام بمهمته في الأرض. وبكلمة، فهو يستمد حياته وفاعليته من المقومات التي منحها الله إياه للقيام بذلك.
فماذا إذن عن ملامح “النفس” في التنزيل الحكيم؟
النفس هي التي تتحكم في الجسد وتسيطر عليه، فالجسد في القرءان كله هو آلة النفس، فهي مسئولة عنه في كل ما أوكل إليها بشأنه. ومن الجدير بالانتباه والتأمل، في آن، أننا لا نجد في التنزيل الحكيم ذلك التمايز بين النفس والجسد، و/أو سيادة النفس على الجسد، لدى المخلوقات الأخرى، بخلاف الإنسان؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يجعل لباقي المخلوقات نفسا أصلا. أي إنه تبارك وتعالى لا يجعل نفسا إلا للإنسان؛ أما باقي المخلوقات، فلم يأتِ في القرءان الكريم أن لها نفسا.
لذلك يقول سبحانه في قتل الإنسان: “وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ” [الأنعام: 151]. ولم يجعل سبحانه للصيد نفسا؛ فيقول عزَّ من قائل: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ” [المائدة: 95].
أما عن النفس الإنسانية، فهي التي تؤمن، وهي التي تأمر بالسوء؛ وبالتالي، فهي التي تُحاسب.. يقول سبحانه: “وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تُؤۡمِنَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَيَجۡعَلُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَعۡقِلُونَ” [يونس: 100]. ورغم أن النفس لا تؤمن “إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ”، إلا أنها تأمر بالسوء، كما في قوله تعالى: “وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ” [يوسف: 53].
ومن ثم، فهي التي تُجزى وتُحاسب، كما في قوله عزَّ وجل: “لِيَجۡزِيَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ” [إبراهيم: 51]؛ وكما في قوله: “يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ” [النحل: 111].. فالنفس، وإن كانت تأتي يوم القيامة “تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا”، إلا أنها، في هذا اليوم، تُجزى وتُحاسب وتُوفى ما عَمِلت “وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ”. ولأن النفس الإنسانية، هي التي تُجزى وتُحاسب وتُوفى ما عملت؛ لذا، فهي التي تُكلّف من قبل المولى سبحانه وتعالى؛ حيث يقول سبحانه: “لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ” [الطلاق: 7].. ويقول تعالى: “لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ” [البقرة: 286].
ولا تتوقف صفات النفس الإنسانية وملامحها، عند هذه الحدود فقط، ولكنها أيضا تتسم بكونها لا تعلم الغيب، حتى ولو كان هذا الغيب قريبا، كما في قوله عزَّ وجل: “وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ” [لقمان: 34] هذا فضلا عن أنها هي التي تموت، وهي التي تعود إلى بارئها؛ حيث يقول سبحانه: “كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَيۡرِ فِتۡنَةٗۖ وَإِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ” [الأنبياء: 35] ويقول تعالى: “كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ” [العنكبوت: 57] ويقول عزَّ من قائل: “كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ” [آل عمران: 185] ويقول: “يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٭ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ” [الفجر: 27-28]
وهكذا، يُخبرنا التنزيل الحكيم بأن النفس هي التي تُدرك وتفهم وتعقل، بل وتجادل وتعلم وتجهل؛ وما الجسد المادي إلا آلة هذه النفس، يُنفذ أوامرها، كما تشاء وترغب وترضى من دون إكراه، لأن فعاليتها لا تتوقف إلا عند نومها؛ حيث يقول تبارك وتعالى: “ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ” [الزمر: 42].
إلا أن التنزيل الحكيم يؤكد لنا أن هناك ما يُمكن تسميته بـ”النفس الإلهية”، وهي بالتأكيد تختلف عن الإنسانية، وإن كانت الاثنتان تحملان نفس التسمية “نفس”.
فالله تبارك وتعالى قد ميز نفسه، وقال إن له نفسا، كما في قوله سبحانه: “وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ” [آل عمران: 28] وكما في قوله تعالى: “وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ” [آل عمران: 30] ولنا أن نُلاحظ، أنه بالرغم من التحذير الإلهي، فإنه في الآية الأولى يُخبرنا بأن “وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ”، وفي الثانية يؤكد لنا بأن “وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ”.
ولم يتوقف الأمر عند حدود أنه سبحانه “رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ”، ولكنه تعالى يُخبرنا بأنه “كَتَبَ عَلَى نَفسِهِ الرَّحمةَ”؛ وذلك كما في قوله سبحانه: “قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ” [الأنعام: 12].
وللحديث بقية.