رؤى

الإسلام والتنمية (5) التكافل الاجتماعي.. والتأمين الاجتماعي

لعله من النافل القول إنَّ “الإنسان الفرد” غير موجود بمفرده في الواقع، ولكن الموجود أفراد ينتسبون إلى نوع الإنسان. إنَّهم محمد أو أحمد أو صلاح أو عائدة أو سعاد، وكلهم إنسان. فالإنسان لم يوجد قط في غير “مجتمع”.

وتكفي الملاحظة المجردة من أي علم، لنعرف أنَّ كل فرد هو جزء من مجتمع، ولو كان الولد الوحيد لوالديه.. وأنَّ الإنسان، كل “إنسان”، قد خلق من ذكر وأنثى، وهما كافيان لتكوين مجتمع صغير، لن يلبث أن يزيد أفراده عددًا.. قال الله تعالى: “يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا” [النساء: 1].. وقال سبحانه: “يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” [الحجرات: 13].

الإنسان –إذن– عضو في مجتمع. وتطلق كلمة “المجتمع” حيثما يكن “اجتماع” ومكان “جامع” وروابط “جامعة” أو بالأحرى حيثما تكن “جماعة” من الناس يعيشون “معًا” في واقع معين “واحد”. وهنا نلتقي بالأبعاد الاجتماعية، والاقتصادية أيضًا، للتنمية كـ”عملية” تبدأ من الواقع الراهن إلى المستقبل، في اتجاه تحقيق هدف محدد يتمحور حول تقدم المجتمع؛ وهي الأبعاد التي تعتمد على الضمان الاجتماعي، بجناحيه: التأمين الاجتماعي والتكافل الاجتماعي.. وليس على الأخير فقط كما يتصوَّر الكثيرون.

الضمان الاجتماعي

مبدئيًا، يعتبر “الضمان الاجتماعي”، أو ضمان “حد الكفاية.. لا حد الكفاف”، هو من أولويات “المذهب التنموي” في الإسلام.. وهو ليس حق الفرد فقط كإنسان أو مخلوق، وإنَما هو ـ أساسًا ـ حق إلهي مقدس، وذلك بقوله سبحانه: “أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ • فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ • وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ” [الماعون: 1ـ3].

والواقع أنَّ “الضمان الاجتماعي” أو ضمان “حد الكفاية” لكل فرد في المجتمع، يكاد أن يكون الأساس الذي تقوم عليه مختلف أحكام “المذهب التنموي” في الإسلام, وهو المحور الذي تكاد أن تدور حوله سائر تطبيقاته، ذلك أنَّ “مشروعية الملكية”، في الإسلام كمثال إنَّما تتوقف على ضمان “حد الكفاية” وأنَّ هدف “التنمية الاقتصادية والاجتماعية” في الإسلام –كمثال آخر– يتمثل في توفير “حد الكفاية”.

بيد أنَّ الملاحظة التي يجب أن نسوق في هذا المجال هو اختلاف “حد الكفاية” باختلاف ظروف المكان والزمان. فمن حيث المكان يختلف “حد الكفاية” باختلاف البلدان حسب ظروف كل مجتمع، فهو في بلد عربي غيره في بلد آخر، وهو في بلد أفريقي غيره في بلد أوروبي. ومن حيث الزمان، يختلف “حد الكفاية” حسب تطور الظروف وتحول الكثير من الاحتياجات، بل والكماليات، إلى ضروريات لا غنى عنها؛ أي إنَّ “حد الكفاية” (أو المستوى اللائق للمعيشة) اليوم في أي بلد خلافه بالأمس.

ملاحظة أخرى ينبغي أن نسوقها في هذا المجال.. وهي: ما دام “الضمان الاجتماعي” أو ضمان “حد الكفاية” هو حق مقدس؛ فهو إذن مُلزِم لكل مجتمع “إسلامي” حق ولو أدى الأمر في مجتمع فقير تشح فيه الموارد والثروة، ألا يحصل أحد من أفراده على الكثير من احتياجاته “الضرورية” وذلك هو ما عبَّرت عنه الآية الكريمة: “… وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ” [البقرة: 219].. “الْعَفْوَ” أي ما زاد عن الحاجة بمعنى “الكفاية”.

وقد يكون أروع نص تشريعي في إشعاعه المحتوى الذي ينبني عليه الضمان الاجتماعي، هو المقطع القرآني في سورة “الحشر”، الذي يحدد وظيفة “الفيء”، ودوره في المجتمع.. يقول سبحانه وتعالى: “مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” [الحشر: 7].

ففي هذا النص القرآني، نجد إشعاعًا يمكن أن يكون “الأساس” الذي تقوم عليه فكرة “الضمان الاجتماعي”.. إنَّه حق الجماعة كلها في الثروة (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)؛ وتفسيرًا لتشريع “العمومية” في “الفيء” بكونه طريقة لضمان هذا الحق، والمنع عن احتكار بعض أفراد الجماعة للثروة، ووجوب تسخير هذه “العمومية” لمصلحة اليتامى والمساكين وابن السبيل، ليظفر جميع أفراد الجماعة بحقهم في الانتفاع بموارد مجتمعهم ومصادر الثروة فيه، تلك التي خلقها الله سبحانه وتعالى، واستخلفهم فيها.

الأساس الذي يقوم عليه “الضمان الاجتماعي” إذًن هو: “حق أفراد الجماعة كافَّة في موارد مجتمعهم ومصادر الثروة فيه”.

وعن هذا “الأساس” تتفرع قاعدتان: إحداهما يمكن أن نُطلق عليها اصطلاحًا “التأمين الاجتماعي” والأخرى يمكن أن نُطلق عليها اصطلاحًا “التكافل الاجتماعي” ولكل من القاعدتين حدودها ومقتضياتها في تحديد نوع الحاجات التي يجب أن يضمن إشباعها، وتعيين الحد “اللائق” من المعيشة وذلك الذي يجب أن يوفره “الضمان الاجتماعي” –كـ”أساس” تنبني عليه التنمية– للأفراد في المجتمع “الإسلامي”.

التكافل الاجتماعي

فيما يتصل بقاعدة “التكافل الاجتماعي” فهي الإطار الذي يفرض فيه الإسلام على المسلمين كافَّة؛ كفالة بعضهم لبعض، ويجعل من هذه الكفالة فريضة على المسلم؛ يجب عليه أن يؤديها، في حدود ظروفه وإمكاناته، كما يؤدي سائر فرائضه.

 من هنا يمكن الإشارة إلى أنَّ “التكافل الاجتماعي” يتم في إطار المجتمع “الإسلامي” على مستويات التعاون “الفردي” والتعاون “الأسري” و”التعاون “الجماعي”.

فمن ناحية دعا الإسلام إلى التعاون “الفردي” وفرضه فرضًا على الأغنياء لصالح الفقراء، وهذا التعاون تتسع مظلته دون تفرقة؛ لتنال عموم الناس، وباعتبار أنَّ هذا العمل “واجب” على ذى الميسرة، و”حق” للمحتاجين يعطى بصورة محترمة لا إذلال ولا امتهان ولا تباهي.. يقول سبحانه: “وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ • لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ” [المعارج: 24 ـ 25].. ويقول تعالى: “فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ” [التغابن: 16].

ومن ناحية أخرى، اعتبر الإسلام أنَّ سلامة الكل تبدأ من سلامة الجزء، وإصلاح المجتمع الكبير يبدأ من إصلاح “الأسرة” باعتبارها النواة الصغرى للمجتمع الإسلامي؛ ومن ثم، فقد دعا إلى التعاون “الأسري”.. يقول سبحانه: “يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ” [البقرة: 215].

ومن ناحية ثالثة، ومع دعوته إلى كل من التعاون “الفردي” والتعاون “الأسري” فقد وجَّه الإسلام الأفراد إلى التعاون “الجماعي” وذلك عندما حثَّهم على مد يد العون والمساعدة جماعيًا إلى الفرد المحتاج عند الاقتضاء.. يقول سبحانه: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” [المائدة: 2].. ويقول تعالى: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” [التوبة: 71].

هذا عن القاعدة الأولى، قاعدة “التكافل الاجتماعي”.

التأمين الاجتماعي

أما فيما يتصل بالقاعدة الثانية، قاعدة “التأمين الاجتماعي”، فهي الإطار الذي يتوجب على الدولة (كمؤسسة منوبة عن المجتمع ـ الإسلامي ـ في إدارة شئونه)، تجاه أفراد المجتمع. فـ”الدولة” في نظر الإسلام، راعية اجتماعية بمعنى أنَّها يجب أن تؤمِّن لرعاياها مستوى المعيشة “الكافي” و”اللائق”.

وإذا كانت الدولة الحديثة قد انتقلت من الدولة الدركية إلى دولة الرعاية الاجتماعية، وإذا كان التوازن المالي قد أصبح في المرتبة الثانية بعد التوازن الاقتصادي والاجتماعي الذي تستهدفه الدولة في ماليتها العامة؛ وفي الوقت نفسه، إذا كان الإنسان قد اختار الدولة وتنازل لها عن “جزء” من حريته، ليحافظ على “كل” هذه الحرية منسجمة مع حريات الآخرين.. فإنَّ المسئولية المباشرة للدولة؛ هي ممارسة “التأمين” الاجتماعي لرعاياها، تحقيقًا لأهم “المبادئ التنموية” في الإسلام، وهو “الضمان الاجتماعي”.. (هذه المسئولية) إنَّما ترتكز على أساس الحق العام لأفراد الجماعة كافَّة في الاستفادة والانتفاع بموارد المجتمع ومصادر الثروة فيه.

وأمَّا الطريقة التي اتخذها “المذهب التنموي” في الإسلام، لتمكين الدولة من القيام بضمان هذا الحق وجماعيته للجماعة كلها، بما تضم من العاجزين.. فهي إيجاد بعض القطاعات العامة التي تتكون من “موارد الملكية العامة” لكي تكون هذه القطاعات –إلى جانب فريضة “الزكاة”– ضمانًا للضعفاء والعاجزين من أفراد الجماعة، وحائلًا دون احتكار الأقوياء للثروة كلها، ومنح كل فرد حقه بوصفها “راعية اجتماعية”.

أبلغ دليل على ذلك هو المقطع القرآني من سورة الحشر [الحشر: 7] الذي سبقت الإشارة إليه.. وهو المقطع الذي يحدد وظيفة “الفيء” ودوره في المجتمع بوصفه “قطاعًا عامًا”.

ولنا، تأكيدًا على ذلك، الفصل الذي تؤكده آيات التنزيل الحكيم بين الإنفاق والزكاة.. يقول الله سبحانه وتعالى: “لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ…” [البقرة: 177].. وهذا الفصل في الآية الكريمة بين الإنفاق والزكاة بالصلاة، دليل على الاختلاف بين الإنفاق والزكاة؛ كما أن النص على كل من الإنفاق والزكاة في آية واحدة، كل على حدة، قاطع بأن كليهما يختلف عن الآخر، وأنهما “فريضتان مختلفتان”.

وهكذا، يمكننا القول بأنَّ الإسلام قد تعمَّد، من خلال “الضمان الاجتماعي”، تحقيق إعادة المداخيل بين الناس وتقريب الفوارق “الاقتصادية” بين أفراد المجتمع الإسلامي بالحجة والإقناع، وإلا بالإلزام.. فالمال مال الله وحده والناس مستخلفون فيه، وذلك كما في قوله تعالى: “آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ” [الحديد: 7].. ولذا، فمن حق الأفراد كافة الاستفادة والانتفاع من موارد مجتمعهم ومصادر الثروة فيه كافة؛ وهذا هو “الأساس” الذي يمكن أن ينبني عليه “المفهوم الإسلامي للتنمية”.

وبعد.. فهذه محاولة أولية في بناء “مفهوم إسلامي للتنمية” مفهومٌ يحاول استخلاص أهم المبادئ الإسلامية، فيما يخص ميادين الاجتماع والاقتصاد.. ولقد استخدمت لفظ “محاولة” لما يعنيه من ضرورة أن تليها محاولات, من أجل استكمال بناء مثل هذا المفهوم.

والله.. من وراء القصد.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock