تشكل الاتجاهات الإيجابية عاملا مؤثرا في بناء العلاقات العملية والاجتماعية، والمشاركة الفعالة في الحوارات وترك انطباع إيجابي عن شخصية الإنسان. لذا تسعى برامج التعليم والتدريب الحديثة إلى تقديم المعارف والمهارات العملية وإلى تعزيز الاتجاهات الإيجابية، التي تساعد الإنسان على احترام الآخرين، وحب العمل، والتفاعل الإنساني الإيجابي. أي إنها طاقة تولد الانضباط والشغف بالعلم والعمل، فهي مفتاح الشخصية في التعارف وفي مقابلات التوظيف، وهي التأسيس للسلوك الحضاري في المواقف المختلفة، وهي المعبر عن شخصية الإنسان وثقافته وتربيته والقيم التي يؤمن بها، كما أن الاتجاهات الإيجابية موضوع يندرج تحت العلوم السلوكية القائمة على مجموعة من المبادئ والأسس التي تساهم بشكل فعّال في فهم السلوك الإنساني وتوجيهه نحو بناء العلاقات الإيجابية.
وعلى العموم يمكننا الجزم بأن التفكير الإيجابي يعتبر أحد أهم المهارات التي نستطيع من خلالها التغلب على العوائق التي تواجهنا في حياتنا وأثناء سعينا لتحقيق أهدافنا، وبالتالي يجب أن نسعى -دائما- إلى تقوية هذه المهارة لما لها من منافع جمّة على شخصية الإنسان، منها التفكير الإبداعي أو التفكير خارج الصندوق، حيث يساهم التفكير الإيجابي في إيجاد قاعدة صلبة من العلاقات الطيبة بين الأشخاص والتي تدوم لفترات طويلة جدا، وذلك لكون الإيجابية هي بداية الطريق للنجاح والثقة بالنفس. ولكن كيف يمكن لنا تعلم التفكير الإيجابي؟(1)
في عام 1998 طوّر رئيس جمعية علماء النفس الأمريكيين مارتن سليجمان •مؤسس علم النفس الإيجابي وأستاذ علم النفس في مؤسسة زيليرباك فاميلي في جامعة بنسلفانيا- عملية “التفكير الإيجابي” وحوّله إلى “علم النفس الإيجابي”، ليكون علما يعتمد الدراسة العلمية لما يحقق السعادة للناس؛ مهتما بجميع تفاصيل الحياة الإيجابية، ما يسهم في تحسينها وعيشها بشكلٍ أفضل، ويهتم بالأمور التي تساعد الفرد ليكون قويا داخل مجتمعه من خلال التركيز على صفاته الإيجابية، وتطويرها وتحسينها لتعود بالنفع عليه، وعلى المجتمع الذي يعيشه.
كما يعتبر علم النفس الإيجابي؛ مدخلا وبوابةً لاستعادة التوازن وتصحيح المسار، ومنهجا وقائيا وعلاجيا ويسمى علم النفس الإيجابي بعلم اقتدار الإنسان أو السيكولوجية الإيجابية، علم مكامن القوة، علم السعادة، علم القوة الإنسانية.. له جذور وروابط مع المدرسة الإنسانية التي تؤمن بقدرة الإنسان ورقي ذاته مثل ماسلو الذي تحدث عن دافعية تحقيق الذات لدى الإنسان وكارل روجرز الذي ارتقى بنظرة علم النفس للإنسان وقدراته وماكليلاند في تناوله لدافعية الإنجاز، وتقاطعـه مع مادي وكوبازا.. فـــــي تناولهما للصلابة النفسية. بناء على ما تقدم سوف نناقش في هذا المقال العناصر التالية:
أولا- تعريف علم النفس الإيجابي: هو الدراسة العلمية للسعادة الإنسانية، ودراسة مكامن القوة والفضائل الإنسانية. فالغاية الرئيسة لعلم النفس الإيجابي تتمثل في قياس وفهم وبناء مكامن القوة الإنسانية وفضائلها، وصولا إلى إرشادنا في تطوير “الحياة الجديدة أو الطيبة”. فهو علم يركز على أوجه القوة عند الإنسان بدلا من أوجه القصور، وعلى الفرص بدلا من الأخطار، وعلى تعزيز الإمكانات بدلا من التوقف عند المعوقات.
كما يعرف بأنه دراسة الجوانب الإيجابية التي تساعد على التعرف على أساليب سعادة الفرد. ويعرفه سيلجمان بأنه اتجاه في علم النفس يسعى إلى دراسة القوى والقيم وتنمية القدرات، التي تُمكّن كل من الأفراد والمجتمعات من التقدم والازدهار. وعرّفه أيضا بأنه: الدراسة العلمية لنقاط القوة التي تمكن الأفراد والمجتمعات من الازدهار(2).
ثانيا- أهداف علم النفس الإيجابي: يسعى علم النفس الإيجابي إلى تنشيط الفعالية الوظيفية والكفاءة والصحة الكلية للإنسان، بدلا من التركيز على الاضطرابات وعلاجها. كما يقوِّم علم النفس مكامن القوة. وبالتالي يأخذ دور وقائي لمن يعيش بحالة جيدة من التوافق النفسي، كما أنه يساعد من يعاني من مشكلات بالتوافق النفسي والاجتماعي من خلال تدعيم ميكانيزمات التوافق لديه. ولكي نجعل من ثقافة التمكين وبناء القوة في الخط الأمامي في علاج الاضطرابات النفسية والوقاية من المرض النفسي، ينحصر موضوع علم النفس الإيجابي في عدة مستويات وهي كالآتي:
– المستوى الذاتي: حول الخبرة الذاتية الإيجابية الرفاهية الشخصية والسعادة (الماضي)، التدفق، السرور، المتع الحسية والسعادة (في الحاضر)، المعارف البناءة حول المستقبل والتي تتضمن التفاؤل، الأمل والإيمان.
– المستوى الفردي: يدور علم النفس الإيجابي حول السمات الشخصية الإيجابية، القدرة على الحب والعمل، الجسارة، الشجاعة، الحس والذوق الجماعي، المثابرة، التسامح، الأصالة، التطلع والانفتاح العقلي على المستقبل، الموهبة العالية والحكمة.
– مستوى الجماعة: الفضائل والمؤسسات المدنية التي تدفع الأفراد الآخرين نحو المواطنة، المسئولية، التواد مع الآخرين والاهتمام بهم، الإيثار، الأدب والذوق، الاعتدال والتوسط، التحمل وخلق العمل.
وإذا أردنا أن نلخص أهداف علم النفس الإيجابي بصيغة مركزة لأمكننا القول: بأنه يهتم ببناء التمكين الشخصي وحسن الحال الذاتي في الحياة. وأما التمكين فيتوجه إلى البحث في وسائل بناء الاقتدار لكل الفئات العمرية (الكبار والشباب والصغار) وذلك على مختلف المستويات الذهنية والمعرفية والسلوكية والمهنية والاجتماعية والعامة. وأكثر ما تطور عن هذا التمكين هو “التفكير الإيجابي“(3).
وقد وضع مارتن سليجمان تصنيفا لخصال الشخصية الإيجابية تضمن أربعا وعشرين خصلة تتلخص في ست فضائل، وهي: الحكمة والمعرفة والشجاعة والحب وضبط النفس والسمو، وأن توظيف الإنسان لهذه الخصال يجعله يحقق السعادة الحقيقية. ويمكننا أن نعدد أهم هذه السمات على الشكل الآتي(4):
– العدل وذلك من خلال تنمية الشعور بالمواطنة والانتماء والقيادة.
– المعرفة والحكمة بتشجيع الأفراد على حب التعلم وبعد النظر.
– الاعتدال وضبط النفس حيث يقوم العلماء بتعزيز فضائل معينة كالاحتشام والرحمة والتسامح وهذا ما يؤكد عليه الدين الإسلامي الحنيف.
– الشجاعة المربوطة بالمثابرة والحيوية والمواظبة.
– الإنسانية وتعزز هذه الفضيلة من خلال مشاعر الحب، والعطف، والتضامن.
ثالثا- تعريف التفكير الإيجابي: هو موقف عقلي تتوقع فيه نتائج جيدة ومرضية، وعدم الشعور بالإحباط عندما لا تسير الخطط كما هو متوقع.
وهذا يعني المحاولة مرة أخرى وعدم قبول الهزيمة. بمعنى آخر، التفكير الإيجابي هو عملية متسلسلة من الأفكار التي تخلق الطاقة التحفيزية وتحوّلها إلى حقيقة واقعية. العقل الإيجابي ينظر دائما بشغف إلى السعادة والصحة ونهاية سعيدة في أي حالة.
كما يُعرف بأنه: “قدرة الفرد الإرادية على تقويم أفكاره ومعتقداته والتحكم فيها وتوجيهها تجاه تحقيق ما توقعه من نتائج ناتجة وتدعيم حل المشكلات ومن خلال تكوين أنظمة وأنساق عقلية منطقية ذات طابع، تفاؤلي تسعى للوصول إلى حل مشكلة”(5).
ويرى سكوت دبليو أن التفكير الإيجابي يمتلك مجموعة من السمات، وهي كالآتي:
- التفاؤل: الإيمان بالنتائج الإيجابية وتوقعها حتى في أصعب المواقف والأزمات والتحديات.
- الحماس: امتلاك أعلى مستويات الاهتمام والطاقة والمشاعر والتحريض الذاتي الإيجابي.
- الإيمان: وهو الاعتقاد بالذات وبالآخرين والإيمان بالقوى الروحية العليا التي تقدم الإرشاد والمساعدات عند احتياج المرء لها.
- التكامل: الالتزام الفردي بالشرف والانفتاح والعدل والعيش وفق المعايير الشخصية.
- الشجاعة: الإرادة للقيام بالمغامرات وقهر المخاوف حتى دون ضمان النتائج.
- الثقة والقناعة: أي الثقة بمقدرات وطاقات وإمكانيات المرء.
- التصميم: المضي الشاق نحو الهدف والسبب والغرض.
- الصبر: الإرادة على انتظار الفرصة واستعداد المرء لذاته وللآخرين.
9 الهدوء: التحلي برباطة الجأش والتفكير والقدرة على الموازنة في مواجهة الصعاب والتحديات والأزمات اليومية.
- التركيز: الاهتمام الموجه عبر وضع الأهداف وتحديات الأوليات(6).
رابعاً- جوانب وأبعاد التفكير الإيجابي: هناك أربعة جوانب في التفكير الإيجابي، وهي كالآتي:
أ) التكيف مع الواقع: وهو التعرف على الواقع والتكيف معه بسرعة وقبوله ومحاولة التعامل معه.
ب) الواقعية وعدم التعصب: وهو أن يصف نفسه بناءً على تقييم الظروف، وهو مرن وغير متعصب في الرأي.
ج) التوقعات الإيجابية (النظرة الإيجابية): وهو القيام بالتركيز على الفرح والتفاؤل وحل المشكلات والابتعاد عن الخوف من الفشل.
د) تأكيد الذات: وهو التركيز على جوانب القوة لدى الفرد(7).
خلاصة القول: إن أبعاد التفكير الإيجابي التفاؤل والتوقعات الإيجابية، وقبول المسئولية الشخصية، والتحكم العاطفي والسيطرة على العمليات العقلية، والقبول الذاتي غير المشروط، والقبول الإيجابي للاختلاف عن الآخرين. فالتوقعات الإيجابية تعني الميل نحو التفاؤل وتوقع نتائج جيدة في ضوء الجانب المشرق في الحياة، وإمكانية تحقيق نتائج إيجابية رغم التحديات والصعوبات. أما قبول المسئولية الشخصية فهي تعني تحمل المسئولية، وتجنب لوم الآخر، والتحلي بالشجاعة لتحمل المسئولية عن القرارات التي يتخذها الفرد، وهذا يحقق التميز بين الآخرين، ويعني التحكم العاطفي مراقبة العواطف والمشاعر والسيطرة عليها بالوعي الذاتي، والقدرة على التعرف على المشاعر وتسميتها، ويشير القبول الذاتي غير المشروط إلى القدرة على قبول الذات بشكل كامل وغير مشروط، وفي هذه الحالة يُتجنّب التدهور الذاتي، والحصول على الاهتمام والتعاطف وإقامة علاقات اجتماعية يسودها الاحترام المتبادل والحب، والقبول الإيجابي للاختلاف عن الآخرين يعني تأكيد مستوى الفرد والمرونة ومدى فهمه لوجهات النظر المختلفة وإدراكه أن الاختلاف بين الناس حقيقة منطقية(8).
هوامش:
(1) حسام الدين فياض: سوسيولوجيا العلاقات الاجتماعية، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: الرابع، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2023، ص(208).
- يعتبر الدكتور مارتن سليجمان أحد مؤسسي علم النفس الإيجابي وأستاذ علم النفس في مؤسسة زيليرباك فاميلي في جامعة بنسلفانيا.
(2) Martin E. P. Seligman, Mihaly Csikszentmihalyi: An Introduction Positive Psychology, American Psychologist, Vol: 55, No:1, January 2000, PP. (5-14).
(3) لمزيد من القراءة والاطلاع انظر: إبراهيم يونس: قوة علم النفس الإيجابي، مؤسسة حورس الدولية للنشر والتوزيع، الإسكندرية، ط1، 2018.
(4) حسام الدين فياض: سوسيولوجيا العلاقات الاجتماعية، مرجع سبق ذكره، ص(210).
(5) أحمد سعيد رشيد الطائي: التفكير الإيجابي وعلاقته بمستوى الطموح لدى مدرسي ومدرسات التربية البدنية في محافظة نينوى، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، المجلد: 18، العدد: 2، 2022، ص(792).
(6) سكوت دبليو: قوة التفكير الإيجابي، تعريب: ناوروز أسعد، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 2003، ص(112).
(7) Magdalena Hanoum & others: Training on positive thinking and self – efficiency in developing thesis. The International Conference on Government Education Management and Tourism (ICoGEMT) Bandung, Indonesia, January 9th, 2021, P.(333-334).
(8) سامية محمد عبد النبي: التربية وتنمية التفكير الإيجابي، المجلة التربوية، كلية التربية، جامعة سوهاج، سوهاج، عدد نوفمبر- ج 4- (91)، 2021، ص(1431).