رؤى

السلوك الإسلامي.. ودلالة “ٱلۡمَعۡرُوفِ” في التنزيل الحكيم

ما المعروف؟ وما المُنكر؟ ما المعنى اللغوي لكل منهما؟ وما الدلالة التي ينبني عليها كل من المصطلحين، في آيات التنزيل الحكيم؟ والأهم.. كيف يمكن تلمُّس ملامح المفهوم في القرءان الكريم، مفهوم المعروف ومفهوم المُنكر؟

يقول سبحانه وتعالى: “ٱلتَّٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّٰٓئِحُونَ ٱلرَّٰكِعُونَ ٱلسَّٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ” [التوية: 112] فما “ٱلۡمَعۡرُوفِ”؟ وما “ٱلۡمُنكَرِ”؟ ومن هم “ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ”؟.

هنا لا نُغالي إذا قلنا بداية: إن مفهوم “المعروف والمنكر”، وإن كان من أهم أُسس السلوك الإسلامي العام؛ فهو -في الوقت نفسه- مفهوم متطور حسب الزمان، متغير حسب المكان، ويُغطي كل سلوكيات المسلم بالأمور التي لا تتعلق بالحدود.

العُرْف والأعراف، هي ما يُطلق على المتعارف عليه بين الناس، في مجتمع ما في مرحلة زمنية معينة. وقد ورد لفظ “ٱلۡعُرۡفِ” مرة واحدة في آيات التنزيل الحكيم، وذلك في قوله عزَّ من قائل: “خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ” [الأعراف: 199].

أما “ٱلۡمَعۡرُوفِ” لغةً فيأتي من الفعل الثلاثي عرف، ومنه جاء المُعرَّف والتعريف؛ ولذلك، يُقال هناك “ال” التعريف، مثلما يُقال إن الإضافة في اللغة للتعريف.

ولفظ المعروف له مصدران في اللغة: الأول مُشتق من عرف فهو معروف؛ ويبدو ذلك بوضوح عند الحديث عن إنسان عُرف بالكتابة، فيُقال عنه كاتب معروف؛ وإذا عُرف بالشعر فيُقال عنه شاعر معروف.. إلخ. أما المصدر الآخر، فهو لفظ مُشتق من العُرْف؛ فهو معروف بمعنى المتعارف عليه بين الناس. إلا أن كلمة معروف، تأخذ أحيانا معنى الإحسان بحسب سياق الكلام؛ فنقول: فلان صنع معروفا لفلان، أي قدم له خدمة فيها إحسان وجميل.

إذن.. المعروف لغةً من عرف معرفة. يقول سبحانه: “وَلَوۡ نَشَآءُ لَأَرَيۡنَٰكَهُمۡ فَلَعَرَفۡتَهُم بِسِيمَٰهُمۡۚ وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِي لَحۡنِ ٱلۡقَوۡلِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ أَعۡمَٰلَكُمۡ” [محمد:30]. ويقول تعالى: “إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ٭ عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ ٭ تَعۡرِفُ فِي وُجُوهِهِمۡ نَضۡرَةَ ٱلنَّعِيمِ” [المطففين: 22-24]. وعن يوسف عليه السلام، عندما دخل عليه إخوته في مصر، يقول عزَّ وجل: “وَجَآءَ إِخۡوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَعَرَفَهُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ” [يوسف: 58].

ورد مصطلح “ٱلۡمَعۡرُوفِ”، في التنزيل الحكيم، في “32” موضعا، فضلا عن لفظ “عرف” ومشتقاته، التي تجاوز عدد مرات وروده أكثر من ذلك بكثير.

وفي آيات الله البينات ورد مصطلح “ٱلۡمَعۡرُوفِ”، كمصطلح مُطلق استعمل في مجالات متعددة، بحيث يُفهم ويُطبق بشكل نسبي من المسلمين. بعبارة أخرى، ورد المصطلح في آيات التنزيل الحكيم، للدلالة على المتعارف عليه بين الناس؛ من حيث إن “ٱلۡأَعۡرَافِ” بين الناس هي من تُحدد العلاقات العملية بينهم. فالعلاقة بين الرجل وزوجه معاشًا أو طلاقًا، والأخذ والعطاء بين الناس ينبع من الأعراف بينهم.

يقول سبحانه وتعالى: “وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ” [البقرة: 228]؛ ويقول سبحانه: “وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ” [البقرة: 233]؛ ويقول تعالى: “وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ” [البقرة: 236]؛ ويقول: “وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ” [البقرة: 231].

وكما يبدو، فقد أوضحت الآيات مفهوم “ٱلۡمَعۡرُوفِ” بشكل صريح؛ أي المتعارف عليه بين الناس. بيد أننا، على نحو مُتشدد بالضرورة، نؤكد على أن الحرام عند المسلم لا يدخل تحت بند الأعراف. وكمثال، فإن أكل لحم الخنزير قد يكون مُتعارف عليه، ومُباحًا، في بلد ما؛ لكنه -رغم ذلك- لا يدخل ضمن أعراف الطعام بالنسبة إلى المسلم، لأن لحم الخنزير هو من “الحدود” وليس من “الأعراف”؛ اللهم إلا في حال “الاضطرار” إلى أكله.. وذلك كما في قوله عزَّ وجل: “إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ” [البقرة: 173].. وكما في قوله عزَّ من قائل: “إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ” [النحل: 115].

نقطة أخرى، تجب الإشارة إليها، تلك التي تتمثل في اختلاف الأعراف من زمان إلى آخر، ومن مكان إلى آخر؛ إذ إن المتعارف عليه بين الناس في مكة، يختلف عن المتعارف عليه في القاهرة أو دمشق أو بغداد، وهو غير المتعارف عليه في جاكرتا أو أديس أبابا. كما أن المتعارف عليه في كل هذه الأماكن وغيرها، في القرن الماضي، يختلف عما هو متعارف عليه بين الناس اليوم. هذا، فضلا عن الاختلاف بين الفئات الاجتماعية المختلفة، حتى داخل البلد الواحد؛ فأعراف الزواج عند الأغنياء تختلف عنها عند الفقراء، وهي في الريف تختلف عنها في الحضر.. إلخ.

أضف إلى ذلك، التأكيد على أن الاختلاف الحاصل، مكانا وزمانا، لا يكون جذريا بحيث ينقلب الخير إلى شر، أو المعروف إلى منكر، أي يُنكره الناس. وأيا يكن الأمر، تظل للأمور نسبيتها ومرونتها باختلاف المكان والزمان.

إذا كان “ٱلۡمَعۡرُوفِ” هو ما عرفه الناس ثم تعارفوا عليه، فأصبح مألوفًا للذوق والقبول الاجتماعي، أي إنه بهذا المفهوم له معنى إيجابي؛ فإن “ٱلۡمُنكَرِ”، قياسًا إلى ذلك، هو ما نكره الناس ثم استنكروه اجتماعيا، فأصبح مُستهجنا غير مألوف للذوق الاجتماعي.

ومن هنا، وجبت التفرقة بين الأعراف، أي المتعارف عليه بين الناس في مكان محدد في مرحلة تاريخية معينة، وبين حدود الله سبحانه وتعالى. إذ إن التنزيل الحكيم يتبدى فيه بوضوح، الفصل بين “ٱلۡمَعۡرُوفِ” و”ٱلۡمُنكَرِ” و”حُدُودِ ٱللَّهِۗ”، وذلك كما في قوله تبارك وتعالى: “ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ” [التوبة: 112]. كيف؟

للحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock