بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عُمان
لم تكن صورة حرب ومفاوضات غزة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار كما هي في الأيام العشرة الأخيرة. صورة كاشفة، بل جارحة بدرجة لم يعد فيها حجة للنظام العربي والرسمي في ضرورة أن يتخذ خطوات حد أدنى ماطل في اتخاذها لمدة ٣٢٥ يوما كاملة مرت على غزة كأنها دهر بأكمله.
أسهم هذا التسويف وأحيانا التواطؤ في استفراد أمريكا وإسرائيل بالمقاومة في غزة وتمكينها من قتل وإصابة وفقد نحو مائة وخمسين ألف فلسطيني مدني بريء ثلثاهم من النساء والأطفال.
وساعد في حصار إسرائيلي وحرب تجويع لما يقرب من مليوني شخص من أشقائهم في أكثر حرب حضرية وحشية باعتراف توماس فريدمان الكاتب المؤيد لإسرائيل.
ما الذي جعل الصورة بهذا الوضوح المحرج للنظم العربية؟
ما جعلها كذلك هو الانقلاب الأمريكي الكامل على خطة الرئيس جو بايدن التي أعلنها بنفسه في ٣١ مايو الماضي وقبلت بها حماس. هذا الانقلاب الذي أظهرته سافرا جولة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن الأخيرة للمنطقة حتى ليخرق مئزره العين التي لا تريد أن ترى.
هذه الجولة شهدت والتعبير للكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: «تساوقا تاما من هذا الوسيط غير النزيه» بلينكن «مع نتانياهو، متسببا في استمرار الحرب، وجعل فظائع غزة تتواصل. فلن يكون هناك اتفاق لوقف إطلاق النار أو لتحرير الأسرى وما قادنا إلى ذلك هو الخضوع الأمريكي لنتانياهو».
فبدلا من خطة بايدن القائمة على: الوصول لاتفاق شامل ينتهي بعد ثلاث مراحل إلى وقف للحرب وانسحاب إسرائيلي من غزة وتبادل للأسرى وفتح الباب لإمدادات الغذاء والدواء» وإعادة الأعمار فاجأ الأمريكيون جولة الدوحة الأخيرة بإسقاط المرحلة الثانية والثالثة من الاتفاق بما يمكن نتانياهو من العودة لحرب إبادة غزة متى وكيفما يشاء. سقطت أيضا فكرة الانسحاب من غزة مع إصرار نتانياهو على البقاء في غزة وعدم الانسحاب من ممر فيلادلفيا ومحور نتساريم أي الاحتفاظ بما يسميه الثروة الأمنية والإستراتيجية لإسرائيل.
تأكد هنا أن أمريكا توافق أو على الأقل ستسكت عما استنتجه بسهولة محللون فلسطينيون وإسرائيليون وغربيون من أن هدف نتانياهو الحقيقي هو احتلال غزة. تأكد أيضا أن مخطط التهجير إلى مصر أو عبر بحر غزة مازال قائما وسيتم العمل عليه ببطء كما تم العمل عليه في الضفة الغربية.
السؤال هنا لماذا انقلبت الإدارة الأمريكية على نفسها وقدمت مقترحا مختلفا بنسبة ١٨٠ درجة؟ الجواب هو كسب الوقت أولا كي ينعقد المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي الذي شهد ترشيح كامالا هاريس للرئاسة عن الحزب بزخم هائل يدفع تقدمها النسبي في استطلاعات الرأي على ترامب دفعة جيدة للأمام ولا يشوش عليها بأي درجة من درجات توتر كبير في الشرق الأوسط كان ليحدث لو حصل الرد الإيراني على اغتيال هنية أو رد حزب الله على اغتيال شكر وهو ما نجح الأمريكيون في تأجيله عبر استخدام الوسطاء العرب في إقناع طهران بالتأجيل حتى لا يتسبب في إفساد اتفاق ينهي الحرب على غزة.. اتفاق ادعى الأمريكيون أنه بات أقرب من أي وقت مضى وكانوا يعلمون قبل غيرهم أنه سراب بعيد.
الهدف الثاني تأجيل أطول وتساعد فيه رسالة واشنطن الحازمة التي لخصها بيان رسمي للقيادة المركزية الأمريكية «بأن الحشد العسكري الأمريكي الحالي في الشرق الأوسط هو أكبر تجمع للقدرات البحرية والقوات الجوية في التاريخ الحديث» ويتلخص في السعي لإبقاء المنطقة بعيدة عن اندلاع حرب شاملة حتى إجراء الانتخابات الأمريكية في نوفمبر إما بأسلوب إطالة مفاوضات غزة لأكبر وقت ممكن أو برسالة الردع العسكري بأكبر طاقة نيران هجومية أمريكية لحماية إسرائيل.
تخلت الإدارة الديمقراطية الحالية فعليا عن هدف إنهاء حرب غزة وقررت التعايش مع مستويات منخفضة منها – المحظور هو أن تصل لحرب شاملة – وذلك بشراء سكوت نتانياهو واتقاء شره ومنعه من التدخل في الانتخابات الأمريكية وهو الذي كان سيتجه غالبا لتحريض الصوت اليهودي والصوت المسيحي الصهيوني للتصويت ضد هاريس لصالح ترامب الذي ضمن مسبقا تأييدا مطلقا وأعمى منه.
مصيبة ما حدث وانكشاف ما فيه من خديعة أمريكية لحلفائها العرب هو أن من تباطأ في الرد أو أجله يشعر الآن بأن مصداقيته باتت على المحك ولابد أن يرد عاجلا أم آجلا وبقسوة أكبر، أما حركات المقاومة خاصة حماس التي وجدت في جولة الدوحة الأخيرة شركا أمريكيا يقودها إلى خيارين إما إلى حتفها أو إلى الاستسلام ورفع الراية البيضاء فقد جعلها هذا الخداع طرفا ليس لديه ما يخسره. بعبارة أخرى فإن كل احتمالات الوصول لحرب إقليمية وكل عناصر التصرف بيأس تزداد باعتراف ايهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل الأسبق. هذه الحرب الواسعة أول من سيكتوي بنارها هم العرب الذين أسلموا قيادهم لواشنطن وهم أصحاب المصلحة الأولى في تحدي التساوق الأمريكي مع نتانياهو الذي ينذر بأوخم العواقب. يستطيعون الآن أن يتقدموا بخطة لمنع حريق حرب إقليمية سيمتد نارها إلى بيوت الجميع.
هذه ربما الفرصة الأخيرة لكي لا تكون نهايتهم خروجا مخزيا من التاريخ. فيها يمكن للعرب استعمال بعض الخطوات شديدة التواضع لجزء مما لديهم من أوراق. على سبيل المثال يمكن لهم الدعوة لاجتماع طارئ على مستوى وزراء الخارجية العرب على الأقل تخرج منه هذه الخطوات الجماعية:
إذا لم تتم العودة للمقترح الأمريكي الأصلي للصفقة الذي وافق عليه العرب ووافقت عليه حماس ستوقف مصر وقطر دوريهما كوسطاء.
-التوجه العربي لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بإجبار إسرائيل على فتح المعابر لوصول الإمدادات للفلسطينيين تحت إشراف الأمم المتحدة وليس إسرائيل.
-التوجه الجماعي لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي لتحويل قرار محكمة العدل الدولية التاريخي في ١٩ يوليو الماضي لقرار ملزم بإزالة المستوطنات وإجلاء المستوطنين من الضفة الغربية بما يجعل حل الدولتين كلام له معنى وليس ضحكا على الذقون.
– قرار أممي بالاعتراف بدولة فلسطين ومنحها العضوية الكاملة في الأمم المتحدة
-قرار عربي بأن مستقبل اليوم التالي لغزة والضفة لن يقرره نتنياهو بل يحدده الفلسطينيون عبر برنامج وطني يقوم على تحويل حكم غزة من يد حماس إلى يد حكومة وحدة وطنية متفق عليها وليس بقرار منفرد من أبو مازن وإعادة بناء م.ت. ف وإدماج حماس والجهاد فيها.
– ما دامت إسرائيل مصممة على انتهاك اتفاقية كامب ديفيد والإساءة إلى السيادة المصرية بالبقاء في ممر فيلادليفيا يمكن لمصر اللجوء للتحكيم الدولي أو محكمة العدل الدولية لإجبارها على احترام التزاماتها. فإن لم تنسحب من الممر يكون من حق القاهرة تعليق ووقف العمل بالاتفاقية.
هذا الجهد العربي لو تم سيلقى دعما من الصين وروسيا ودول الجنوب وحتى من دول أوروبية، وستضع المعارضة المتوقعة له من قبل واشنطن في موقف سياسي وأخلاقي شديد الصعوبة. الأهم أنه بدون المساندة المقدمة لواشنطن خاصة من مصر وقطر والسعودية والإمارات في عملية الوساطة المباشرة وغير المباشرة ستعجز أمريكا ويعجز نتانياهو عن تركيع الشعب الفلسطيني في غزة والضفة وإكراهه على صفقة ظالمة.