لا يتحدد مسار التاريخ فقط بقرارات مصيرية تصدرها جهات سيادية، أو بتداعيات الأحداث العالمية الكبرى، وإنما قد ترتسم ملامحه بقرارات ’تافهة‘، يصدرها أناس عاديون في لحظات مختلَسة من عمر الزمان.
في كتابهTiny Histories: Trivial events and Trifling Decisions that Changed British History، الذي نشر في أكتوبر 2017، يكشف الكاتب والصحافي ديكس ويلز، النقاب عن ستة قرارات غيرت وجه التاريخ، وجعلت بريطانيا ما هي عليه اليوم.
امرأة تخطئ تقدير سرعة حصان في أحد سباقات الخيول، فتمنح المرأة البريطانية حق التصويت
تتسم بعض اللحظات التاريخية الفارقة بطبيعة مأساوية. ينطبق هذا التوصيف على ما حدث في يونيو 1913، عندما أخطأت ناشطة في الأربعين من عمرها في تقدير سرعة أحد الخيول المشاركة في سباق “ديربي” الشهير، في مضمار “إبسوم” لسباقات الخيول.
فعندما راحت إميلي ويلدنج ديفيسون تعدو بسرعة كبيرة على أرض الميدان، كانت – في واقع الأمر – تريد أن تضع وشاحا يحمل ألوان حركة “سوفرجت” النسوية على أحد الخيول التي تنافس في السباق (وهو الفرس أنمير Anmer، أحد خيول الملك جورج الخامس). لكنها – لسوء الحظ – لم تقدر جيدا سرعة الفرس، فصدمها بقوة، وأرداها في حالة سيئة، لم تلبث أن ماتت بعدها بأربعة أيام.
كان هناك عدة شواهد تؤكد أن إميلي لم تكن تخطط بذلك للتضحية بحياتها من أجل دعم الحركة. فقد كانت – على سبيل المثال – تحمل في جيبها تذكرة قطار لقضاء أجازتها مع أختها بعد الانتهاء من السباق، كما أنها شوهدت قبل الحادث بأيام مع بعض عضوات حركة “سوفرجت” يمارسن بعض التدريبات على أنشطة تخدم أهداف الحركة.
أثارت وفاة الناشطة البارزة في حركة سوفرجت على هذا النحو أصداء واسعة في المجتمع البريطاني على كافة مستوياته، وساعد في تحفيز قطاعات عريضة لدعم حق المرأة في التصويت والاقتراع. كان الرجال من أكثر القطاعات التي تحركت لدعم القضية في أعقاب هذا الحادث، خاصة بعد أن كانوا أقل المتحمسين لها.
أدى موت إميلي بهذه الطريقة المأساوية أيضا إلى تكوين “اتحاد الرجال الشماليين لدعم حق المرأة في الاقتراع” Northern Men’s Federation for Women’s Suffrage. وبعد موتها بخمس سنوات، تم تمرير قانون التمثيل الشعبي لعام 1918 1918 Representation of the People Act ، الذي منح قطاعات معينة من النساء حق الاقتراع لأول مرة. وفي عام 1928، حصلت المرأة في بريطانيا على حقها كاملا في الاقتراع والتصويت مثل الرجال.
جراح بيطري يقتطع جزءا من خرطوم قديم ليحدث ثورة في عالم النقل
على الجانب الآخر من البحر الأيرلندي، تمخضت المحاولات الشجاعية التي قام بها صبي صغير للسفر عبر شوارع غير ممهدة، ومليئة بالحصى، في مدينة بيلفاست، شمالي أيرلندا، في القرن التاسع عشر، على دراجته ذات الثلاث عجلات عن ثورة في عالم النقل. فقد حركت متاعب الصبي على هذا النوع من الطرق مشاعر الأب – الذي لم يكن مهندسا أو مخترعا، وإنما كان جراحا بيطريا – فشرع في البحث عن حلول تحقق لابنه قدرا من الراحة، وربما الرفاهية.
وفي يوم من أيام عام 1888، قام الرجل – وهو أسكتلندي يدعى جون دانلوب – باقتطاع جزء من خرطوم قديم في إحدى الحدائق، وشكًله على شكل دائرة، ثم عبأه بالهواء وثبته على إسطوانة خشبية. وبعد عدد من الاختبارات، قام بتثبيت إطارات هوائية مماثلة على العجلات الخلفية لدراجة ابنه.
أحدث ذلك تأثيرا لافتا، وغدا السير بالدراجة على الحصى أسهل بكثير مما كان عليه. تلقف جميع منتجي الدراجات اختراع الإطارات الهوائية، وهو ما ساعد راكبي الدراجات على قطع مسافات أطول دون عناء كبير، وأحدث طفرة في استخدام الدراجات. وبعد مرور حوالي عقد من الزمان، تم تطوير إطار أكثر سمكا وأكثر قدرة على التحمل، وفي الحال تم تركيب هذا النوع من الإطارات في السيارات الحديثة آنذاك.
ربما لم يربح دانلوب ثروة طائلة من وراء اختراعه، لكن عاطفة الأبوة وشغفه لتبديد متاعب ابنه وضمان راحته ورفاهيته، أدى إلى ثورة شاملة، ليس فقط في عالم الدراجات، وإنما في عالم السيارات أيضا.
تغيير موعد مسلسل يؤثر في نتيجة انتخابات مجلس العموم البريطاني
في النصف الثاني من القرن العشرين، أدى تأجيل موعد أحد المسلسلات لمدة ساعة واحدة إلى تغيير المشهد السياسي البريطاني بالكامل.
ففي شهر أكتوبر 1964، قام هارولد ويلسون، زعيم حزب العمال آنذاك، بتصفح مواعيد برامج التليفزيون عشية الانتخابات العامة. لاحظ ويلسون أن تليفزيون BBC سيعرض حلقة من المسلسل الكوميدي Steptoe and Son في تمام الساعة الثامنة مساء؛ وهو ما أصابه بحالة من الهلع الشديد.
كانت قصة الرجلين اللذين يعانيان من حالة فقر مدقع قد نجحت في جذب 14 مليون مشاهد (بلغ العدد في بعض الأحيان 20 مليون مشاهد). في هذه الآونة، كان موعد إغلاق لجان الاقتراع في إنجلترا متقدما بساعة عما هو عليه الآن؛ لذا خشي ويلسون من أن يصرف عرض المسلسل مؤيدي حزب العمال عن التصويت لحزبهم. اتجه ويلسون سريعا إلى منزل السير هيو جرين، مدير شبكة BBC آنذاك، لمناقشة الأمر. وعلى إثر هذه الزيارة، تحدث جرين إلى المسئول عن قناة BBC One، وتم تأجيل عرض المسلسل إلى الساعة التاسعة.
في ظل منافسة انتخابية حامية الوطيس تضم مجموعة من الدوائر المهمشة، كان تقدير ويلسون أن تأجيل عرض موعد مسلسل Steptoe and Son إلى الساعة التاسعة من شأنه أن يضمن 20 مقعدا لحزب العمال ربما يفقدها لو عرض المسلسل في موعده. وبصورة إجمالية، بلغ عدد المقاعد التي فاز بها حزب العمال في هذه الإنتخابات 317 مقعدا من إجمالي مقاعد مجلس العموم البالغ عددها 630 مقعدا، وهو ما منحه أغلبية برلمانية سمحت له بتشكيل الحكومة.