رؤى

دلالة “شَهِدَ”.. ومفارقات مضمون “ٱلشَّهَٰدَةِ” قرءانيًا

“ٱلشَّهَٰدَةِ” هي “الحضور ومُعاينة الشيء والعلم به”؛ وهي بذلك تؤشر إلى “البينة والدليل القاطع، بالحضور والمعاينة والإقرار لأمر ما”. و”ٱلشَّهَٰدَةِ” مصدر مشتق من الجذر “شَ هـِ دَ”، وهو أصل يدل على حضور ومُشاهدة وعِلم وإعلام؛ ولفظ “أشهد” من الألفاظ الدالة على “تحقُق الشاهد من الشيء”. وقد سُميت “ٱلشَّهَٰدَةِ” بهذا الاسم لأنها تؤشر إلى “مُشاهدة الشاهد للحدث المشهود”.

وقد وصلنا من قبل إلى التأكيد على اختلاف صيغ “الفعل” في اللسان العربي، ما بين الصيغة التفعيلية والصيغة التقريرية؛ إذ بخلال الصيغة “التقريرية” التي تستتبع فعلا أو ينتج عنها، فالصيغة “التفعيلية” للفعل، هي تلك التي يربط من خلالها بين القول والفعل.. مثل قول: “أعد بـ…”، فإن الوعد ذاته التزام عن طريق الكلمة/اللفظ؛ وكما في “أشهد بـ…” أو “أشهد أن…”، فإن ملفوظ “الشهادة” فعل قضائي واعتراف بواسطة الكلمة/اللفظ، حتى قبل أن يُحدد الناطق ما يُشهد عليه.

بعبارة أخرى، فإن الفعل “أشهد” يعتبر إنجازيًا (تفعيلي)، عندما يستخدم في صيغة المضارع ومع ضمير المتكلم فهو “قول/فعل”؛ بمعنى أنه يُعد تعبيرًا لغويًا حيث ينبغي النطق به، فضلًا عن كونه حقيقة واقعة لأنه “قيام بالفعل”.

بهذه الصيغة التفعيلية، “الإنجازية”، يرد فعل “شَهِدَ” في القرءان الكريم، في “أربعة” مواضع..

ضمن هذه المواضع الأربعة، تناولنا من قبل موضعين اثنين؛ أحدهما، هو قوله سبحانه وتعالى: “قُلۡ أَيُّ شَيۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَٰدَةٗۖ قُلِ ٱللَّهُۖ شَهِيدُۢ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَۚ أَئِنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ قُل لَّآ أَشۡهَدُۚ قُلۡ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَإِنَّنِي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ” [الأنعام: 19].

وقد أكدنا، هناك، أن التمييز بين ثنائية الأشخاص، كما يبدو في الآية، تظهر بالتضاد بين “أَئِنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ”، وهي قيمة تقريرية للفعل “شهد” تعرض شهادة زور، عبر التعبير القرءاني “أَئِنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ”؛ وبين قيمة تفعيلية للفعل “شهد” على لسان النبي سيقت لرفض عقيدة باطلة، من خلال التعبير القرءاني “قُل لَّآ أَشۡهَدُۚ”.

أما الموضع الثاني، الذي يتضمن قيمة تفعيلية للفعل “شَهِدَ”، فيأتي في السورة نفسها [الأنعام]، في خطاب موجه من الله تبارك وتعالى إلى معشر الجن والإنس؛ وبهذا المعنى، فإنه خطاب موجه إلى المجتمع الكبير والمتباين، بشقيه، لـ”ٱلشَّهَٰدَةِ” لأجل تبرئة ساحتهم. رغم ذلك، فإنهم “يشهدون” على أنفسهم “أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ”.. وذلك، ما يتبدى من خلال قوله تعالى: “يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ شَهِدۡنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَاۖ وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ” [الأنعام: 130].

ويبدو أن صيغة الفعل “شَهِدَ” تتحول من القيمة التفعيلية في قوله سبحانه: “قَالُواْ شَهِدۡنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَاۖ”، إلى القيمة التقريرية في قوله تعالى: “وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ”. إذ، عبر فعل القول “قَالُواْ”، الذي يؤكد فعل الشهادة “شَهِدۡنَا”، تأتي القيمة التفعيلية للفعل “شَهِدَ”، الذي يبقى فعلًا يربط الواقع “غير اللغوي” بالفاعل، بحيث يكون الشاهد جزءًا من إقراره بما يشهد عليه.

إضافة إلى الموضعين السابقين، يرد فعل “شَهِدَ” في القرءان الكريم، بهذه الصيغة التفعيلية، “الإنجازية”، في موضعين آخرين..

أحدهما، وهو الموضع الثالث لـ”تفعيلية” فعل “شَهِدَ”، هو قوله سبحانه: “وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ” [الأعراف: 172].

ولنا أن نُلاحظ، عبر السياق القرءاني في الآية الكريمة، “الحوار” بين الله تبارك وتعالى، وبني آدم.. الحوار الذي يبدأ بالسؤال الإلهي “أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ”، وتكون الإجابة بـ”ملفوظ” الشهادة “قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ”. وكما يبدو، فإن مضمون الشهادة لا يظهر فيها، لأن الشهادة نفسها “شهادة مُطلقة دليلها وجودهم ذاته”؛ إذ إنهم مخلوقات يشهد وجودها على وجود خالقها. وهنا نُلاحظ أيضا، التداخل بين الشهادة والمشهود له ـ وليس المشهود عليه ـ فإذا كان الله عزَّ وجل يدعو الناس للشهادة على ربوبيته، فهم يشهدون على ذلك بكيانهم كله، قولا وفعلا، من حيث إنهم بالفعل “دليل مطلق قدرته سبحانه”.

إذ، يكفي أن نتأمل الفعل الإلهي في مُفتتح الآية “وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ”؛ وأيضًا، التحذير في خاتمتها “أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ”.

أما الآخر، أي الموضع الرابع لـ”تفعيلية” فعل “شَهِدَ”، فهو قوله تعالى: “إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ قَالُواْ نَشۡهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ” [التوبة: 1].

ولنا هنا أن نُلاحظ المفارقة الحاصلة بين الشهادة والشاهد. إذ عبر مُفتتح الآية “إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ”، تم التعريف بالشاهد “ٱلۡمُنَٰفِقُونَ”؛ ومن ثم، ورغم أن مضمون الشهادة نفسها “حقيقي”، من خلال تقرير الله تبارك وتعالى لها؛ إلا أن هذا المضمون يتعارض مع حقيقة الناطق بالشهادة، بمعنى أن طبيعة الشاهد هي التي يشوبها “الكذب”، فينتج عنها تلك المفارقة. بعبارة أخرى، رغم أن ما يميز تفعلية الفعل، أو الفعل الإنجازي، هو إنشاء رابطة واتحاد بين الفاعل وما يتلفظ به، أي ما يشهد به في حالتنا هذه؛ إلا أننا نقرأ، عبر الآية الكريمة، “شهادة عكسية” تتعدى الشهادة الزور في رغبة الشهود بالتكتم وإخفاء الحقيقة التي يوقنون بها، وإظهار”حقيقة” أخرى هم لا يوقنون بها.

ولنا أن نُلاحظ هنا أيضا، أهمية الإدانة الإلهية لهذه الفئة من البشر “ٱلۡمُنَٰفِقُونَ”؛ فالله عزَّ وجل يعلم الحقيقة الحقيقية ويشهد على كذبهم. وبالتالي، فهذه الشهادة هي إقرار، ودليل إثبات، وإدانة لهذه الفئة من البشر، تلك التي تحمل السورة عنوانًا باسمهم “ٱلۡمُنَٰفِقُونَ”.

وهكذا..

هذه هي المواضع الأربعة، التي وردت فيها تفعيلية الفعل “شَهِدَ”، والاستعمال الإنجازي له. ولأن الفعل في اللسان العربي له صيغتان: تفعيلية وتقريرية، يُصبح التساؤل حول: مواضع ورود الفعل “شَهِدَ”، في صيغته التقريرية، في آيات التنزيل الحكيم.

وهذا هو محور حدييثنا القادم.

 

 

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock