رؤى

عيون الناس.. والاحتجاج بالنظرة اللائمة!

تحتاج عيون الناس إلى عيون تراقبها. فالعيون تندب فيها رصاصة لأنها لا تنظر فحسب وإنما تنطق وتعلق وتفضح وتتكلم. بعض العيون يجرح وبعضها يداوي بعضها يصدق وبعضها يكذب. بعضها يغض الطرف ويتقي وبعضها يخدش ويعتدي. بعضها يكره وبعضها يحب. بعضها يجشع وبعضها يخشع. بعضها يتعاطف معك وبعضها يعتدي عليك. بعضها ينافقك وبعضها يوافقك. العيون كما قال الشاعر “إذا تحدَّثَت بلغاتها قالت مقالا لا يقله خطيب”.

ومراقبة العيون مهم ومحاولة فهم لغتها أهم. ولعل ذلك ما يفعله كل الناس تقريبا، وإن كان بدرجات متفاوتة وفي سياقات مختلفة. هناك مراقبة خاصة للعيون يحركها أحيانا الفضول وتُحتِّمها كثيرا حاسة البصر. هذه المراقبة الخاصة ليست مطلقة على الكيف وفي أي اتجاه لأن القرآن الكريم يعلمنا “إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا” [الإسراء:36] وبالتالي فالأصل فيها أن تكون مراقبة مقيدة ومسئولة، لا تتعدى النظر إلى المباح ولا تمتد إلى المحظور.

لكن هناك مراقبة أخرى عامة، يعرفها قطاع محدود من الأفراد، باتت ملاحظة الناس وقراءة عيونهم ولغة جسدهم -بشكل عام- جزءا من أدوات اشتغالهم بالبحوث والعلوم الاجتماعية. هؤلاء الباحثون ينزلون إلى الشارع ويختلطون بالناس ليرصدوا ما يجري في المجتمع من تغيرات وما يطرأ عليه من مستجدات، حتى لو وجدوها فيما تنطق به العيون.

وقد استرعتني -وأنا أتابع على هامش الإبادة الإسرائيلية الوحشية لإخواننا في فلسطين منذ السابع من أكتوبر الماضي- تلك “العيون الفتاكة” التي كثيرا ما لمحتها وأنا أمر بالقرب من المقاهي الإفرنجية التي حتّمت أقل نداءات الواجب الإنساني والإسلامي والعربي مقاطعتها، بسبب دعمها للكيان الصهيوني. ولا أقصد بالعيون الفتاكة تلك المقل البديعة التي تسبي الناظرين. فليس ذلك موضوعنا، وإنما أقصد العيون الشجاعة التي تكاد نظراتها الحادة تفتك بتلك القلة من الناس، بالذات لو كانوا من العرب من الجالسين في تلك المقاهي بالمخالفة لأقل واجب يفرضه الضمير.

هذه العيون الفتاكة تستحق التقدير والاعجاب من جهة وتستوجب الفهم والاستيعاب من جهة أخرى. التقدير والإعجاب لأن أصحابها يقفون ولو بالرمز مع إخوتهم في فلسطين ولأنهم أيضا يحترمون أنفسهم. لقد عرفوا كيف يتخذون موقفا. قالوا للإمبريالية الاستهلاكية “طز”… لن نرضى بهيمنتك. قهوتك ومشروباتك لن تركعنا. لسنا بهذه التفاهة ولن يستلبنا كوبا من القهوة مهما كانت شهرته. ويستحق أصحابها التقدير والاعجاب أيضا لشجاعتهم، حيث كنت كلما أرقب عيونهم كنت

أراها وهي تصب جام اندهاشها -إن لم يكن ازدراءها- بلا تحفظ على من واصلوا الجلوس في تلك المقاهي وكأن شيئاً داميا لا يحدث في هذا العالم.

أما من ناحية التحليل والاستيعاب فيجب أن نعترف بذكاء أصحاب تلك العيون الفتاكة. فهم يعرفون حدود المسموح السياسي في مجتمعاتهم. يعلمون أن صوت الشعوب العربية مخنوق، يُضيَّق عليه بكل السبل، ويعلمون أيضا لو أن صوتا واحدا تجاوز الخطوط الحمراء؛ فسوف يُردع ويُمنع ويُقمع. ولهذا ارتأى أصحاب تلك العيون الفتاكة أن يتبرموا بالنظرات والإيماءات طالما أنهم لا يستطيعون أن يحتجوا بالكلمات والتحركات. لقد سدت البدائل أمامهم في الواقع فراحوا يفتشون عنها في عالم الرموز حتى لو كانت بنظرات العين.

في إحدى المرات استوقفني مشهد لسيدة مسنة أمام مدخل لواحد من تلك المقاهي الأمريكية الملوثة بالتعاطف مع إسرائيل. كانت تنظر حيث يجلس بالقرب من مدخل المقهى رجل عربي. ظلت ترمقه قرابة نصف دقيقة، وهو ما لم يغب عن انتباه الرجل. ثم كان أن تطور المشهد فجأة عندما باغتت السيدة ذلك الرجل بتوبيخ لين لامتناعه عن المقاطعة أثبتت أن لديها وعيا سياسيا وتعاطفا مع المستضعفين وغيرة على تصرفات عرب من بني جنسها. اللافت أن المشهد تطوّر في لحظة عندما بادلها الرجل التعليق بتعليق مضاد قال فيه أنه سيقاطع ذلك المقهى لو امتنعت هي عن ركوب سيارتها الأمريكية. عند هذا الحد انتهى الحوار المقتضب بين الطرفين عندما قررت السيدة أن تنصرف. لكن لم يفتها قبل أن تمضي في طريقها أن ترسل للرجل بعينيها نظرات حادة استوقفتني واستوقفت من وقف مثلي يراقب المشهد.

عيون الناس تتكلم مثلما تنظر . تتحدث في كل شيء حتى في السياسة عندما تنوب عن اللسان عندما يُضيّق عليه. العيون قادرة على أن تحتج وأن تقول كل شيء عن كل شيء دون أن تنطق بكلمة واحدة. وهذا هو الذكاء في ذروته والتكيف بعينه عيون الناس يا ناس ليست سهلة. إنها سلاح فتاك قادر على أن يعترض على الأذى دون أن يعرض صاحبه بسهولة للأذى. فالنقد والعتاب بالعيون أقل ضررا وأسرع أثرا من النقد بالكلمات. فهي تسجل مواقف وتعبّر عن أفكار وتجسد عواطف تجيش في صدور أصحابها. وكما تعبّر العيون عن الحب واللهفة تستطيع أن تعبر أيضا عن التبرُّم والضيق. لهذا فإن أصحاب العيون الفتاكة ممن قرروا توظيف نظراتهم دعما لأشقائهم المكلومين في فلسطين يستحقون التحية؛ لتعاطفهم مع أصحاب أعدل قضية إنسانية -من جهة- ولنجاحهم في الالتفاف على القيود باختراعهم طرق برينة وآمنة للاحتجاج واللوم والعتاب.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock