رؤى

ليبيا.. وعودة مشكلة الميليشيات إلى الواجهة

عادت قضايا فساد الميليشيات والجماعات المسلحة في ليبيا إلى الواجهة من جديد، بعد الإعلان عن وقائع جديدة في هذه القضايا؛ فقد كشف بيان صادر عن مكتب النائب العام الليبي في 18 سبتمبر الجاري، عن تهم فساد طالت بعض المسئولين، من بينهم ثلاث من السفراء السابقين، وثلاث من المسئولين عن الشئون الصحية.. وغيرهم.

وفي ليبيا كما في غيرها، عندما تغيب الدولة؛ يسود الصراع حينما تتعارض المصالح؛ وفي ليبيا بعد القذافي، يوجد الكثير مما يمكن الصراع حوله: النفوذ السياسي، السلطة والهيمنة، المغانم الاقتصادية والمالية، بل وحتى الأصالة والانتماء للهوية الليبية.

والواقع، أن لفظ ميليشيات لا يُلامس الحقيقة تماما في الواقع الليبي؛ فكثير من الجماعات المسلحة أو الكتائب العسكرية، تتبع رسميا وزارة الدفاع أو وزارة الداخلية، ويحصل أعضاؤها على رواتب من خزينة الدولة، هذا في الوقت الذي لا تتقيد فيه بأوامر الوزارتين في أحيان كثيرة، وتُشكل عبئا أمنيا في غالب الأحيان على الساحة الليبية.

إذ، رغم أن هذه الكتائب وتلك الجماعات، تقدّم خدمات تتعلق بحفظ الأمن والنظام في مناطقها؛ يتربح البعض الآخر من أنشطة غير مشروعة، مثل تهريب البشر وبيع النفط، فضلا عن عمليات الاختطاف بهدف الابتزاز؛ بل إن بعض الميليشيات يرتبط بأجندات سياسية لدول إقليمية وغير إقليمية. هذا، بالإضافة إلى الميليشيات التي تُطلق على نفسها صفة “إسلامية التي ترتبط هي الأخرى بأجندات دول خارجية. هذا بالإضافة إلى عدم اعترافها بالدولة الليبية.

وتعود جذور مشكلة الميليشيات في ليبيا إلى فترة ما بعد سقوط نظام القذافي؛ ففي أثناء الانتفاضة الليبية في عام 2011، كانت هذه الجماعات المسلحة حليفا مُهِمًّا في الإطاحة بالنظام. لكن، مع انهيار النظام المركزي، وغياب مؤسسة عسكرية وطنية قوية تستطيع ملء الفراغ الأمني، تحولت تلك الجماعات إلى قوة فاعلة مستقلة تسيطر على أجزاء واسعة من البلاد؛ كل مجموعة مسلحة منها تحاول تحقيق أهدافها الخاصة، سواء كانت سياسية، قبلية، أو اقتصادية.

وبالتالي، تعتبر ليبيا اليوم مثالا واضحا على الدولة التي تواجه تحديات معقدة بسبب انتشار الميليشيات والجماعات المسلحة. فمنذ الإطاحة بنظام معمر القذافي تعاني ليبيا من حالة عدم استقرار مستمرة، حيث أصبحت الميليشيات المسلحة لاعبا رئيسا في المشهد السياسي والعسكري، على الساحة الليبية. ومن ثم، يخلق هذا الوضع تعقيدات أمنية وسياسية واقتصادية، تحول دون تحقيق الاستقرار وإعادة بناء الدولة

تتعدد العوامل التي ساعدت على انتشار عشرات الميليشيات في داخل ليبيا، ومن أهمها:

أولا: التنوع الأيديولوجي والعقائدي؛ حيث تتسم الجماعات المسلحة في ليبيا بتنوعها الكبير من حيث الأيديولوجيا والانتماءات العقائدية والجهوية أيضا. فمنها جماعات ذات توجه إسلامي متطرف (تنظيم أنصار الشريعة وداعش)؛ ومنها ميليشيات قبلية وقومية، وأخرى ذات طابع جهوي تحاول تأمين مصالحها المحلية. هذا التنوع يُعقّد إمكانية التوصل إلى حلول سياسية شاملة، حيث تتداخل الأهداف بين العقائدي والاقتصادي والسياسي.

ثانيا: الدور الخارجي وتأثيره على تزايد الميليشيات؛ إذ إلى جانب الديناميات المحلية، يلعب التدخل الأجنبي دورا كبيرا في تغذية مشكلة الميليشيات في ليبيا. فبعض القوى الدولية تدعم بعض الميليشيات، بشكل مباشر أو غير مباشر، لتحقيق مصالحها الجيوسياسية. على سبيل المثال، تلقت بعض الجماعات المسلحة دعما من دول إقليمية مثل تركيا وغيرها؛ وذلك في إطار صراعات النفوذ بين هذه الدول. هذا التدخل يجعل الحل أكثر تعقيدا ويزيد من تأجيج الصراع الداخلي.

ثالثا، الانقسامات الداخلية على الساحة الليبية؛ فالانقسام الجغرافي بين شرق وغرب ليبيا، يعتبر أحد أبرز العوامل التي تساهم في تعزيز سلطة الميليشيات، في الداخل الليبي. ففي الغرب، تسيطر عدة ميليشيات على العاصمة طرابلس والمناطق المحيطة بها، وهي غالبا متحالفة مع حكومة الوفاق الوطني سابقا، وحكومة الوحدة الوطنية حاليا. أما في الشرق، فإن الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير خليفة حفتر، يسعى إلى فرض سيطرته، ولكن يعتمد أيضا على تحالفات مع ميليشيات محلية. هذا الانقسام، يعكس عدم وجود سلطة مركزية قوية، ويمنع توحيد القوات المسلحة تحت قيادة وطنية واحدة.

بالطبع، ينتج عن الميليشيات المنتشرة على الأرض الليبية، مجموعة من التداعيات والتأثيرات، التي تتنوع في ما بين الأمنية والاقتصادية؛ إلا أنها جميعًا تصب في الإشكالية السياسية التي تمر بها ليبيا.

فمن جانب، هناك التأثيرات الأمنية؛ حيث تُشكّل الميليشيات تهديدا كبيرا للأمن والاستقرار في ليبيا، ليس فقط بسبب المواجهات المسلحة المستمرة؛ بل أيضا بسبب الأنشطة غير القانونية التي تمارسها. فبعض الميليشيات تستغل حالة الفوضى لتحقيق أرباح من تهريب الأسلحة والمخدرات والاتجار بالبشر، خاصة عبر الحدود الجنوبية للبلاد، التي تفتقر إلى رقابة حكومية فعالة. هذه الأنشطة تُضاعِف من صعوبة استعادة الدولة لسيادتها على أراضيها، وتزيد من تعقيد العلاقات مع دول الجوار.

من جانب آخر، هناك الآثار الاقتصادية؛ فعلى الصعيد الاقتصادي، تسببت سيطرة الميليشيات على الموارد الحيوية في البلاد في تعطيل اقتصاد ليبيا، خصوصا قطاع النفط. فالموانئ والحقول النفطية أصبحت هدفا للميليشيات، التي تسعى إلى استخدامها، ورقة ضغط سياسية، أو وسيلة للتمويل الذاتي. مثل هذا التحكم في الموارد الحيوية، يحرم الدولة من إيراداتها الأساسية، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وزيادة معاناة المواطنين الليبيين.

من جانب أخير، هناك التحديات في دمج الميليشيات؛ إذ إن أحد أبرز التحديات التي تواجه الجهود الرامية إلى حل مشكلة الميليشيات، هو كيفية دمج هذه الجماعات في القوات المسلحة النظامية، أو إعادة تأهيل أفرادها ودمجهم في الحياة المدنية. تتطلب هذه العملية وجود إرادة سياسية قوية، فضلا عن بناء مؤسسات أمنية فعالة قادرة على استيعاب هذا العدد الكبير من المسلحين؛ كما يتطلب الأمر وضع خطط شاملة لنزع السلاح، وتوفير بدائل اقتصادية لأفراد الميليشيات الذين قد يعتمدون على الأنشطة المسلحة مصدرا للرزق، لهم ولعائلاتهم.

في هذا السياق، يظل مستقبل ليبيا مرهونا بمدى قدرة الأطراف المحلية والدولية على إيجاد حلول شاملة ومستدامة لمشكلة الميليشيات؛ حيث يتطلب تحقيق الاستقرار الحقيقي في ليبيا، تفكيك هذه الجماعات المسلحة ونزع سلاحها، بالإضافة إلى بناء مؤسسات أمنية وعسكرية وطنية، تكون قادرة على فرض القانون والنظام.

في النهاية، تحتاج ليبيا إلى عملية سياسية شاملة تضم جميع الأطراف الفاعلة، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي، بهدف استعادة سيادة الدولة وبناء مؤسساتها من جديد. بدون هذه الخطوات، سيظل خطر الميليشيات يهدد مستقبل ليبيا واستقراره.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock