ثقافة

مشاعل إسلامية (25): القاضي عبد الجبار.. و”المُغني”

يمثل القاضي عبد الجبار، أبو الحسن الهمذاني الأسد آبادي (ت 415 هـ)، الفقيه الشافعي، والمتكلم المعتزلي، أحد أهم أعلام الفكر الإسلامي، على وجه العموم، وفيما يتعلق بدور “العقل” في كل من المعرفة والإيمان، على وجه خاص. بل، يأتي كتابه: “المغني في أبواب العدل والتوحيد”، ليمثل أحد الكتب المهمة، وـ ربماـ المركزية في منتوج هذا الفكر خلال قرون مضت.

ولعل أهمية القاضي عبد الجبار، هذه، تتبدى إذا لاحظنا “القاعدة” الأساسية التي ينطلق منها ليصل إلى مفهومه في “العقل” و”المعرفة”.. ففي كتابه “المغني”، يقول القاضي: “إن سائر ما ورد به القرآن في التوحيد والعدل، ورد مؤكدًا لما في العقول. فإما أن يكون دليلًا بنفسه، يمكن الاستدلال به ابتداءً، فمحال”.

ماهية العقل

يعني هذا، في ما يعنيه، أن القاضي يؤكد الاتفاق بين “العقل” و”النقل”؛ ولذا فهو يقوم ـابتداءًـ بتحديد ماهية العقل، والتعرف على طبيعة الوسائل التي يمكنه عن طريقها الوصول إلى المعرفة اليقينية؛ ومن ثم، يمكن تحديد الأفكار التي يستطيع العقل بمفرده الوصول إليها.

وبناءً على مجموعة الخطوات، تلك، يصل القاضي إلى ما مؤداه: أن يصبح العقل ضرورة من ضرورات التكليف الإلهي للبشر، وذلك بحكم مسئولية الإنسان وقدرته على الفعل.

لذلك، يقول القاضي: “واعلم أن المكلف كما يحتاج أن يكون ممكنًا من أحداث الفعل بالقدرة والآلات ليصح منه أداء ما كلف، فكذلك يحتاج إلى أن يكون عالمًا بما كلف وصفاته، والفصل بينه وبين غيره، ليصح أن يقصد إلى إحداثه، وليصح أن يعلم أنه قد أدى ما كلف”.

القاضي عبد الجبار

ولأن هذه المعرفة، تحتاج إلى القوة المميزة بين الأشياء والأفعال.. فقد ذهب القاضي عبد الجبار إلى ضرورة أن تكون المعرفة من فعل الإنسان. والوسيلة التي يتوصل بها الإنسان إلى المعرفة هي العقل. ومن ثم، فلابد من أن يزود الله الإنسان بالعقل، ليمكنه من أداء ما كلف به على الوجه الذي تتحدد به مسئوليته عن الفعل.

ومن ثم، نراه يقول: “وإن كان العلم بذلك الشيء مما لا يكون إلا ضروريًا، فلابد من أن يخلقه تعالى فيه. وإن صح كونه مكتسبًا حُسن من القديم ـ تعالى ـ أن يمكنه منه ليصح أن يعلم ويؤدي ما علمه، على الوجه الذي كلف”.

العقل، إذًا، ضروري للمكلف، حتى يستطيع أداء ما كلفه الله به. والمعرفة التي يحتاج إليها المكلف، تنقسم إلى ضرورية، ومكتسبة. والمعارف الضرورية لابد أن يخلقها الله في العبد، كما أنه يحسن أن يمكنه من العلوم المكتسبة.

ولما كانت العلوم الضرورية، مقدمة للعلوم المكتسبة وتمهيدًا لها، لم يفصل القاضي عبد الجبار بين العلوم الضرورية والعقل. وعرف “العقل”، بناءً على ذلك، بأنه: “عبارة عن جملة من العلوم مخصوصة، متى حصلت في المكلف صح منه النظر والاستدلال والقيام بأداء ما كلف”.

القاضي عبد الجبار

كيفية المعرفة

ومن اللافت للانتباه، أن القاضي عبد الجبار، في الوقت الذي اعتبر فيه العقل فطريًا وقاسمًا مشتركًا بين البشر، لا يتأثر بظروف الزمان أو المكان؛ فإنه، في الوقت نفسه، أدرك أن الباعث على النظر والاستدلال واكتساب العلوم النظرية، هو ما يأتي من خارج الإنسان ـ الداعي والخاطر ـ ومن داخله ـ الشك ـ معًا، فـ”الخاطر” يثير الخوف من العقاب الخارجي، و”الشك” يثير الرغبة في التوازن وصولًا لليقين.

ولكن.. هل من الضروري أن يؤدي النظر إلى المعرفة(؟!).. ألا يجوز أن يؤدي بنا إلى الجهل؛ وفي هذه الحال، لا يكون ثمة ضرورة له، ما دام سوف ينقلنا إلى جهل آخر(؟!).

ينكر القاضي عبد الجبار أن يؤدي النظر إلى الجهل، وإن جاز أن يؤدي إلى غالب الظن، أو: أن يؤدي ـ على أسوأ تقدير ـ إلى الشك مرة أخرى. ولكنه، إذا كان نظرًا من عاقل في دليل معلوم، فلابد أن يؤدي إلى العلم.

في ذلك، يقول القاضي: “ومن حق النظر أن يكون فيه ما يولد العلم، إذا كان نظرًا من عاقل في دليل معلوم له، على الوجه الذي يدل، ويكون فيه ما لا يولد العلم، بل يقتضي غالب الظن في أمور الدنيا، وقد يكون فيه ما لا يحصل عنده الوجهان جميعًا. ولا يصح أن يكون فيه ما يولد الشبهة أو الجهل.. وكما لا يجوز أن يولد الجهل، فكذلك لا يجوز ان يولد غير الاعتقاد من أفعال القلوب”.

يبني القاضي عبد الجبار، إذًا، المعرفة على أساس أن: النظر من شأنه أن يولد العلم، إذا كان نظرًا في دليل معلوم على الوجه الذي يدل. وعدم الوصول بالنظر إلى مرحلة العلم، يعني وجود نوع من الخطأ في استخدام الدليل، أو في معرفة وجه الاستدلال به.

وهكذا، وبناءً على هذه الكيفية في المعرفة، قام القاضي بالتفرقة بين أنواع الأدلة، كل منها يختص بمرحلة من مراحل المعرفة، وكان هذا مدخله “الطبيعي” لدراسة القرآن، ولقضية التأويل.

ولعل هذا، في الواقع، ما يأتي ضمن الأسباب الدافعة لوضع القاضي عبد الجبار في مكانته، المرموقة، ضمن “علامات” الفكر العربي الإسلامي.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock