كثيرا ما يتعامل الناس مع الثقافة على أنها الآداب والفنون، كالشعر والرواية والموسيقى والمسرح والسينما والغناء وغيرها، ما يجعل وزارة الثقافة -حسب وجهة نظرهم- الوزارة المعنية بالأمر، حيث ترعى مؤسساتها هذه الأنشطة واكتشاف الموهوبين فيها وتقديمهم للجمهور.
هذا ما ذهب إليه الشاعر والروائي المصري صبحي موسى في مقدمته لكتابه “تحولات الثقافة في مصر” الذي يهديه إلى المبصر دائما طه حسين، وفيه يرى أن الثقافة “كلٌ معقدٌ” حسبما يقول علماء الاجتماع، فلا يمكن النظر إليها من جانب واحد فقط، خاصة إذا كنا نريد أن نبني مجتمعا حديثا، نتجاوز فيه أخطاء الماضي، ومن ثم لابد من العودة إلى التعريفات الأساسية التي تعامل من خلالها علماء الاجتماع مع الثقافة.
صبحي موسى الذي يشير إلى أن الثقافة مفهوم متشعب، ورد فيها أكثر من مائة وستين تعريفا، أبرزها تعريف إدورد تايلور: ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعرفة والعقيدة والفن والتقاليد، وأي قدرات وعادات أخرى يتعلمها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع، يرى كذلك أن الأمر تغير في المجتمعات الحديثة، خاصة مع معرفة الإنسان للآلة التي نقلته من مكان إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، بمنتهى السهولة، كما لو أنها آلة للسفر عبر الزمن، وليس الانتقال الجغرافي بين المجتمعات والدول، ومن ثم ازدادت معارف الإنسان وتنوعت مصادرها، ولم يعد الأمر محصورا في مؤسستي الأسرة والقبيلة، ومن ثم ظهرت مؤسسات جديدة للتعليم والتثقيف، مؤسسات ليست بدائية ولا بسيطة، لكنها بنفس درجة التعقيد الذي صارت عليها المجتمعات، وصار على الجميع الالتزام بها من أجل الحصول على أكبر قدر من المعارف والعلوم، بما يُمَكّن صاحبها من مواجهة العالم المركب الذي نشأ فيه.
يُرجع الكاتب الفضل في طرح فكرة كتابه هذا إلى الرائد والمُعلم الأكبر عميد الأدب العربي طه حسين، فمنذ أن قرأ كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” قبل سنوات، وهو يفكر في أننا بحاجة إلى إعادة قراءة ما حدث من تحولات ثقافية وسياسية واجتماعية في المجتمع المصري، يقول هنا إن ما حدث من تحولات من عصر السادات حتى وقتنا الراهن أصاب العظام بالوهن، وراكم آلاف الأطنان من الركام على العقول، ولإزالة كل ذلك لابد من وضع خطة شاملة تتعاون فيها كل المؤسسات المعنية بصناعة وعي وفكر وثقافة وتعليم وقيم الموطن المصري، وأن ينفذ ذلك بحزم من قِبَلِ الجميع دون تباطؤ أو تهاون، عبر خطة طموحة يضعها كبار المختصين في مختلف مجالات التثقيف، وتمنحها الدولة عنايتها الأولى، انطلاقا من أن أولويتها الأولى هي الاستثمار في البشر، وأن هؤلاء المقيمين على الرقعة الجغرافية المعروفة باسم مصر هم نعمة وليسوا نقمة، وعلينا أن نفكر في كيفية استغلالهم على الوجه الأمثل، ولن يحدث ذلك إلا من خلال بناء مواطن لديه القدرة على الخيال والتفكير والوعي النقدي، مواطن مثقف مدرب متحرر من كوابح الماضي ومخاوف المستقبل.
في كتابه هذا يسعى صبحي موسى كذلك إلى إبراز دور وأهمية المجموعة الثقافية، متوقفا أمام نشأة مؤسساتها وتطورها، متعرفا على قدراتها الحقيقية، فضلا عن الميراث الثقافي الذي نتعامل معه من خلالها، وكيف ينتمي جانب كبير من المواطنين إلى هذا التراث، ما يوضح أهمية العمل في منظومة متكاملة من قبل جميع المؤسسات، وفي مقدمتها وزارة الثقافة التي من المفترض أن تكون الراسم الأول لخطط الفعل الثقافي في مصر، فضلا عن كونها المؤسسة الأولى المعنية بصناعة القوة الناعمة، حيث تعمل على اكتشاف المبدعين وتنميتهم وتصديرهم إلى العالم عبر آليات وطرق متباينة، راصدا مراحل تطور وزارة الثقافة منذ إنشائها وحتى الآن، مؤكدا أنها رأس الحربة في وضع خطة الثقافة، بل إنها الوزارة المعنية بالدرجة الأولى بالأمر.
موسى يرى أيضا أن فكر جمال عبد الناصر به كثير من التعظيم للثقافة، وكان اختياره لثروت عكاشة رغم كونه قادما من خلفية عسكرية، إلا أنه كان مدنيا وحاصلا على دبلوم الآداب، ويُحضّر الدكتوراه في السوربون، ولم تكن أهدافه من وزارة الثقافة سوى الرغبة في تحسين صورة النظام، وتقديم دعم حقيقي للمواطن في المجال الثقافي، فقد كانت الدولة تقوم في ذلك الوقت على رؤية اشتراكية، وترى أنها بمثابة الأب الراعي للجميع، وأنها مسئولة عن المواطن في كل شيء، في مقابل أن يؤمن المواطن بخطط النظام ورؤاه، مضيفا أن الثقافة لم تكن في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي مأمونة الجانب، فقد كانت علاقتها باليسار قوية وشديدة، بل إن كل المثقفين خرجوا من عباءة اليسار، حتى قيل إنه لا يمكن أن يكون هناك مثقف ولا يكون يساريًّا، وكانت الدولة تتعامل بريبة مع المثقفين.
في كتابه “تحولات الثقافة في مصر” الذي يغوص فيه في أعماق ودهاليز الثقافة في مصر، مؤسسات ورجالا، محاولا رصد أسباب تراجع الدور الثقافي، باحثا عما يعيد إلى الثقافة المصرية دورها الرائد، وقيمتها وتأثيرها داخليًّا وخارجيًّا، مستعرضا مسيرة الرؤي الثقافية في مصر منذ محمد على حتى وقتنا الراهن، وما حدث من تحولات كبرى على الصعيد العالمي والمحلي- يكتب صبحي موسى عن خطة ثقافية جديدة، عن ثورة الاتصالات وسطوة الحداثة، عن عودة الحرب الباردة، عن التحولات العربية والأفريقية، عن ثورة الهامش، وعن بناء القوة الثقافية، مشيرا إلى أن أي خطة ثقافية يجب أن تكون شاملة، أي أنها تعنى بالمجتمع ككل، وليس بفئة أو طائفة أو جماعة محددة، وأن تكون أولوياتها بالدرجة الأولى هي البشر وليس الحجر، فترك البشر على حالهم لسنوات طويلة يصيب الوعي والفكر في أي مجتمع بالجمود والثبات، ذاكرا في خاتمة كتابه أنه لا يدعي أننا نبتكر العجلة، فمصر لها تاريخ عريق في المجال الثقافي، ولديها مؤسسات مهمة وكبيرة، وخبرات ثقافية جليلة، ومن ثم فعلينا أن نراجع تاريخ هذه المسيرة المهمة، ونستوعب ما حدث من نجاحات وإخفاقات، نركز على الجوانب الإيجابية ونستبعد أو نعالج ما حدث من سلبيات، ربما تكون هذه هي البداية التي ستعقبها آلاف الإضافات، فلا يوجد تاريخ ثقافي منقطع، ولا يمكن إحداث قطيعة ثقافية كاملة مع الجذور، لكن لابد من مراجعة دائمة لها، كي نستبين الخطوات التي قطعناها، ندرك ما يجب أن نكمل عليه البناء، وما حاد بنا عن الطريق والهدف، فلا يمكننا أن نهدر كل هذ التاريخ الثقافي الذي اقتدت به كثير من الشعوب كي ندعي أننا سننشئ عالما جديدا، فالفطنة أن ندرك ما لدينا من مُقدّرات ونوظفها بحنكة، وأن نتعلم من تاريخنا وتجاربنا الماضية، وأن نستثمر كل ذرة لدينا في النهوض بأنفسنا.
فالثقافة -يقول الكاتب- ليست الشعر والرواية والقصة والمسرح، ولا حتى السينما والموسيقى والفن التشكيلي، لكنها هي الكل الجامع، لا تجري في جزر منعزلة، بل تدور في منظومة متكاملة متناغمة، فالاقتصاد ثقافة، والسياسة ثقافة، والبناء ثقافة، والعدم ثقافة، وإن لم يكن هناك وعي بما في أيدينا وما يمكن أن نحققه من خلاله فلن ننهض، ولا يجمع كل هذه الدوائر الصغيرة المتعددة سوى المنظومة الثقافية، ولدينا مجموعة كبرى من المؤسسات التي تعمل على صناعة وعي الإنسان وثقافته، ولا يجب أن نهملها، أو نتركها تعمل خارج إطار خطة واضحة الأهداف والرؤى، بحيث تتكامل وتتناغم مختلف عناصر المجموعة الثقافية مع بعضها البعض، ولا يفسد أي منها عمل أي من المؤسسات الأخرى.