تختزن ذاكرة هان كانغ- الفائزة بنوبل هذا العام- مآسي عديدة؛ شكّلت وعيها الإبداعي وساهمت على نحو واضح في مسيرتها الأدبية.. بعيدا عن اللغط الموسمي الذي تثيره جائزة نوبل في الآداب -ربما منذ نشأة الجائزة عام 1901، وخاصة بعد فوز بوب ديلان، مؤلف الأغاني الأمريكي، بالجائزة عام 2016- إلا أن التجربة الإبداعية لهان كانغ – التي تُرجم لها كتابان فقط إلى العربية- تجربة بالغة العمق والثراء.. ولا يقتصر ذلك على توصيف لجنة نوبل الذي أفاد بأن “نثر كانغ الشعري المكثف واجه الصدمات التاريخية؛ كاشفا عن هشاشة الحياة البشرية” وهو في الحقيقة توصيف يدعو إلى الرثاء، بداية من لغته المُعلّبة “الصماء” وانتهاء باكتشاف تلك “الهشاشة” المدّعاة للحياة البشرية؛ التي يؤكد إبداع كانغ على قوتها وصمودها البطولي في مواجهة الألم الممتد والمتواصل؛ بفعل الحرمان والفقد وإجرام البعض ضد الكل.
تحسن الإشارة إلى الكتابين المترجمين إلى العربية أولا وهما: رواية “النباتية” الصادرة في 2007، والتي حازت جائزة مان بوكر الدولية في العام نفسه، وتكشف فيها كانغ عن معاناة امرأة قررت أن تصبح نباتية؛ فتواجه بالرفض المجتمعي الذي يصل إلى حد العنف والاستغلال الجنسي الذي يصل بها في النهاية إلى حالة تشبه الذهان، بعد أن صنعت لنفسها عالما من الأشجار الملتهبة التي تمثل مملكة نباتية شديدة الجاذبية والخطورة في آن.
الكتاب الثاني بعنوان “الكتاب الأبيض” وهو رواية قصيرة – تتجاوز ترجمتها المئة صفحة بقليل- تغلب عليها اللغة الشعرية، وهي بمثابة مرثية أخ لأخته التي ماتت فور ولادتها.. تصنع كانغ في هذا العمل عالما غارقا في بياضه.. مترعا بحزنه الناجم عن تصورٍ يسيطر على السارد بأن الحياة المنتزعة من الأخت.. كانت ثمنا لميلاده ووجوده.. ذلك الوجود الذي سيرهقه حتى “النفس الأخير”.
هان كانغ شاعرة، ناثرة، قاصة، روائية، موسيقية، فنانة.. معارضة سياسية أيضا، ورد اسمها في القائمة السوداء لمعارضي الرئيسة السابقة بارك غن هاي التي تولت السلطة بين عامي 2013 و2017، وكانت التوصية بالتضييق الشديد ماديا على كل من ورد اسمه بالقائمة، مع الوضع تحت المراقبة.
مسيرة هان الأدبية بدأت بنشر قصائدها في مجلة “الأدب والمجتمع” عام 1993، وكانت حينذاك في الثالثة والعشرين من عمرها.. وفي عام 1995، دخلت عالم النثر بنشر مجموعة قصص قصيرة.. ثم توالت أعمالها التي غلب عليها التداخل بين الشعري والروائي والذاتي المغرق في تفاصيل بالغة القسوة، نتجت عن تجربة حياة ليست بالسهلة.
قبل الفوز بالمان بوكر الدولية بخمس سنوات صدرت لكانغ رواية بعنوان “يداك الباردتان” عن مخطوطة لنحات مجهول.. تكشف عن أسرار الجسد مع التركيز على تشريح الجسم البشري لسبر غور مكامن الحياة فيه.
“الريح تهب، اذهب” روايتها في 2010، والتي حملت رؤية فلسفية معقدة عن الصداقة والفن، والحزن المقيم والحنين إلى واقع مغاير لا سبيل إليه.
الجسد حاضر بقوة في إبداع كانغ.. لكنه لا يألف الصور النمطية؛ إنه ماثل في علاقات بالغة التفرد، كما في “دروس يونانية” 2011، والتي تتناول قصة امرأة فقدت القدرة على الكلام، بعد مرورها بعدة مآس- تحاول بناء علاقة مع معلمها للغة اليونانية وقد كُفّ بصره.
“في رواية “أفعال البشرية”2014، تستخدم هان كانغ حدثا تاريخيا وقع في مدينة كوانغجو كأساس سياسي لها، حيث نشأت هي نفسها وحيث قُتل مئات الطلاب والمدنيين العزل خلال مجزرة نفذها الجيش الكوري الجنوبي عام 1980”.
في هذه الرواية التي تعتبر بمثابة شهادة أدبية على جريمة ضد الإنسانية، تستنهض هان أرواح ضحايا المذبحة ليقولوا كلمتهم للتاريخ، مستخدمة أسلوبا يكشف بجلاء عن أقسى درجات القسوة التي تعرض لها الضحايا.
ومنذ ثلاث سنوات وفي رواية “لن نفترق” استدعت كانغ مذبحة أخرى حدثت في الأربعينات في إحدى الجزر الكورية “حيث قُتل عشرات الآلاف من الأشخاص، بينهم أطفال وكبار سن، بشبهة أنهم متعاونون. يصور الكتاب عملية الحداد المشتركة التي يعيشها السارد وصديقته إنسيون، اللذان يحملان معهما صدمة مرتبطة بالكارثة التي حلت بأقاربهما حتى بعد وقت طويل من الحدث”.
الألم بشتى صوره يسيطر على تجربة هان كانغ الإبداعية.. ألم بالغ العمق والصدق.. وهو مزيج بين ألم الجسد والنفس والعقل.. ذاتي وموضوعي.. حاد دون تكلف. فهو ملازم للتجربة الإنسانية.. لا تكاد تفارقه فهو معلمها الأول.. وهو ما يستطيع الإنسان من خلاله اكتشاف اللذة والسعادة.. واستيلاد الحلم من رحم الكابوس في ضوء شمس الحقيقة.. كما حاولت هان كانغ أن تخبر به العالم الجاثم بثقله على أجساد المستضعفين.