قبل أربع سنوت غادر دنيانا، الفنان محمود ياسين بعد مسيرة طويلة في العمل الفني شارك خلالها في أكثر من 250 عملا تنوعت بين الإذاعي والمسرحي والدراما التليفزيونية، بالإضافة إلى الأعمال السينمائية التي سجّلت حضورا استثنائيا للفنان الراحل.
ويعتبر العام 1975، هو العام الأكثر نشاطا في المجال السينمائي لياسين؛ حيث عُرض له أحد عشر فيلما خلال هذا العام فقط، وهو رقم كبير لم يتكرر كثيرا في مسيرة الفنانين المصريين، خاصة أن الأدوار كلها كانت أدوار بطولة.
وهذه الأفلام جاءت على الترتيب تبعا ليوم العرض الأول كما يلي:
“سيدتي الجميلة” وعُرض في 1 يناير، من إخراج حلمي رفلة
“سؤال في الحب” وعرض في 10 فبراير، من إخراج هنري بركات
“جفت الدموع” وعُرض في 30 يونيو، من إخراج حلمي رفلة
“شقة في وسط البلد” وعُرض في 29 اغسطس، من إخراج محمد فاضل
“لا تتركني وحدي” وعُرض في 27 من أكتوبر، من إخراج حسن الإمام
“على ورق سوليفان” وعُرض في 5 أكتوبر، من إخراج حسين كمال
“الكداب” وعُرض في 6 من أكتوبر، من إخراج صلاح أبو سيف وهو أحد الأفلام الجادة والمُهِمَّة.
“…وانتهى الحب” وعُرض في 7 من أكتوبر، من إخراج حسن الإمام
“حب أحلى من الحب” وعرض في 3 نوفمبر، من إخراج حلمي رفلة
“على من نطلق الرصاص” وعُرض في 8 ديسمبر ، من إخراج كمال الشيخ
“مولد يا دنيا ” وعُرض في 11 ديسمبر، من إخراج حسين كمال.
كان ياسين في عامه الرابع والأربعين يتربع على عرش النجومية بأدواره الرومانسية التي اعتمدت في المقام الاول على مواصفاته الجسمانية ووسامته، وهو الوصف الذي يمكن أن نطلقه -دون حرج- على أفلامه مع المخرج حلمي رفلة، والمخرج حسين كمال، والمخرج حسن الأمام.. أما أفلامه مع المخرجين كمال الشيخ وصلاح أبوسيف وهنري بركات.. فلا شك أن الأمر يختلف كل الاختلاف.. ويبقى فيلمه “على من نطلق الرصاص” من إخراج كمال الشيخ، وهو الفيلم الذي يحتل المرتبة السادسة والأربعين ضمن أفضل الأفلام في تاريخ السينما المصرية- العمل السينمائي الأهم والأبرز في مسيرة الفنان محمود ياسين في رأي الكثيرين.
لقد توافرت لهذا العمل كل عوامل النجاح والتميز بدءا من القصة والسيناريو والحوار للمبدع رأفت الميهي، وليس انتهاء بالإخراج بالغ الروعة والدقة من المخرج كمال الشيخ الذي وظّف خبراته بوصفه مونتير سابق في ضبط إيقاع الفيلم؛ ليبدو -رغم قسوة معظم مشاهد الفيلم- كقطعة من الحرير النادر.
أما بالنسبة للأداء التمثيلي فكان على نحو بالغ الإبهار من جميع الشخصيات الرئيسة في العمل، خاصة سعاد حسني في دور تهاني، والمتمكن جميل راتب في دور رئيس الشركة الفاسد رشدي عبد الباقي، وعزت العلايلي في واحد من أجمل أدواره في دور المحقق الجنائي عادل، والفنان مجدي وهبة في دور سامي عبد الرءوف الضحية الذي دفع حياته ثمنا لأطماع الفاسدين، وأحمد توفيق في دور قاسم الجنزوري، اليد اليمنى لرئيس الشركة.. والفنان نبيل الدسوقي في دور من أهم أدواره، دور المدير المالي الفاسد حسام خليل.. وبالطبع لا يمكن نسيان الإطلالة القصيرة بالغة العمق والإبداع من الفنان علي الشريف في دور السجين المفرج عنه زكي رزق عبد الله.
أما بالنسبة لمحمود ياسين فقد أتاح له دور مصطفى حسين بأبعاده المتعددة وجوانبه المركبة، مساحة من الإبداع؛ استغلها الفنان على أفضل ما يكون.
هو مصطفى الشاب الجامعي المهموم بمشاكل وطنه؛ ما يعرّضه للاعتقال أكثر من مرة، وتترك تلك التجربة المريرة في نفسه جراحا غائرة ومرارة لا تهدأ.. يؤججها تعلُّق قلبه بخطيبة صديقة المُقرب المهندس سامي، برغم أن الفتاة على خلاف طبيعة مصطفى تماما، فهي مادية متطلعة نحو الثراء ولا تحفل كثيرا بالمبادئ المثالية التي يؤمن بها مصطفى.
يجسد الفنان محمود ياسين في تلك المشاهد التي تجمع مصطفى بتهاني وسامي- حالة من الصراع النفسي بالغة العمق والضراوة، لحظات يغلّفها الصمت، وتكشفها النظرات، يلتهب قلبه الذي يخفي حبه لتهاني، ويحار عقله الذي يرفض ماديتها وتطلعها نحو الثراء، بالإضافة إلى خوفه على صديقه، من مصير مؤلم تدفعه إليه رغبات خطيبته.
يُغيّب المعتقل، مصطفى لفترة تتطور فيها الأحداث في حياة تهاني وسامي، الذي يورطه الفاسدون في مسئولية انهيار مساكن نفذتها الشركة على خلاف المواصفات بعد نهب مواد البناء، وينتهي الحال بسامي إلى السجن، ثم يقرر الفَسَدَة تسميمه داخل السجن؛ حتى لا يدلي بما لديه من معلومات أمام المحكمة.. بعد موت سامي بثلاث سنوات تتزوج تهاني من رئيس الشركة، رشدي عبد الباقي قاتل خطيبها، وكانت تعمل في وظيفة سكرتيرة لديه.
بعد خروجه من المعتقل في حال يُرثى لها- أبدع الراحل في إتقان تفاصيلها- يعلم مصطفى بما حدث لصديقه، وزواج محبوبته من القاتل، فيدخل في حالة اكتئاب؛ ثم يعود إلى بلدته بالدلتا، فتسارع أمه بتزويجه من فتاة ريفية، لا وجه للتكافؤ بينهما.. فتكون حياتهما نموذجا للبؤس في ظل عدم قدرة مصطفى على الخروج من حالة الحزن والغضب التي تنتهي به إلى اتخاذ القرار باغتيال رشدي عبد الباقي في مكتبه، ثم الهرب وهو ما يُعرّضه لحادث سيارة سيودي بحياته في نهاية الفيلم.
اختار كمال الشيخ للفيلم اسما مناسبا تماما جاء في صيغة سؤال “على من نطلق الرصاص؟” في حربنا على الفساد الذي ينخر في أربعة أركان مجتمعنا على نحو واضح وبصور وأشكال عِدة، هل نطلق الرصاص على رءوس كبار الفاسدين فقط، أم نطلقه على أنفسنا لأننا مساهمين بفاعلية في هذا الفساد، إما بصمتنا العاجز والخائف، وإما بتشجيع الفاسدين على الاستمرار في نهبهم لمقدرات البلاد، على أساس أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن هذه هي طبيعة الأمور في بلاد الشرق السعيد!
لقد اختار مصطفى إطلاق الرصاص على رشدي عبد الباقي انتقاما لصديقه المغدور، ولقلبه المكسور.. لكنه كان يودُّ أيضا إطلاق الرصاص على تهاني التي وصلت بها رغبتها في الثراء إلى بيع نفسها في سوق النخاسة، لشخص لا يحتاج الأمر إلى كبير عناء؛ لكشف تاريخه في الفساد. ودَّ مصطفى أيضا أن يوجه رصاصته للمجتمع الذي يكرّس للقيم المادية، ويهدر كل قيمة نبيلة، كما أراد أيضا أن يطلق الرصاص على نفسه؛ لأنه كان حالما في واقع خشن لا يعرف سوى قانون السوق.
في ذكرى رحيل الفنان محمود ياسين الرابعة، سنجد من الأعمال الفنية العظيمة له ما يجل عن الحصر وما يجعلنا نتغاضى عن كثير من الأعمال لم تكن في المستوى اللائق به، ربما فرضتها ظروف كثيرة لا نعلمها، ولا سبيل لنا لمحاكمتها الآن.. ويبقى لنا “على من نطلق الرصاص؟” عملا عظيما وسؤالا قائما ما زلنا نبحث له عن إجابة!