في رحلتنا مع مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”، في آيات التنزيل الحكيم، أنهينا حديثنا السابق بأن ثمة تدرج في “ٱلشَّهَٰدَةِ”، وأن هناك تدرج في اتساع الدوائر حول مركز معين، وهو هنا الرسول عليه الصلاة والسلام كـ”شاهد مركزي”، ثم دوائر الشهود من حوله: الأمة والأمم والناس؛ بما يُمثل تسلسلا تدريجيا لـ”مراتب الشاهد”، و”مراتب الشهود” في آن.
وقلنا هناك بأن هذا الدور الموكل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، في ذلك المقام، يرتبط بنزاهته وعدالته؛ بل، فضلا عن ذلك، يرتبط -في الوقت نفسه- بدوره بوصفه شخصية مركزية ومحورية للأمة؛ هذه الأمة (المحمدية)، التي وصفها التنزيل الحكيم بأنها “أُمَّةٗ وَسَطٗا”، وذلك في قوله تعالى: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ…” [البقرة: 143]. إذ، إن الأمة المحمدية، وإن كانت في مكانة “شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ”، إلا أن الرسول سيكون على أمته “شَهِيدٗاۗ”.
وليس هذا بالطبع، نوع من إثارة النعرة العنصرية لصالح العرب، التي يحاولها الشيوخ من الأقدمين، ومن والاهم من المحدثين؛ ولكنها رؤية في كيفية تناول التنزيل الحكيم تدرج المسئولية بخصوص “الشهادة الحق” في اليوم الحق.. اليوم الآخر.
في هذا الإطار، تأتي شهادة الرسول مرتكزا أساسا، في تدرج الشهادة ودوائرها المتتالية، في التنزيل الحكيم؛ وهو ما يتأكد عبر المواضع “الثلاثة” التي ورد فيها مصطلح “شَٰهِدٗا” في التنزيل الحكيم، تلك المواضع التي تخص الرسول عليه الصلاة والسلام.
يقول سبحانه وتعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٭ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا” [الأحزاب: 45-46]. وإذا كان من الصحيح أن مُفتتح الآية “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ”، بما يعني توجيه الخطاب إلى النبي (مقام النبوة)؛ فإنه يبقى من الصحيح أيضا، أن الشهادة خاصة بالرسالة (النبي ك”شاهدا” في مقام الرسالة)، بدليل “إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا”.. وهو ما يتأكد في الموضع “الثاني” لورود مصطلح “شَٰهِدٗا”، نعني قوله عزَّ وجل: “إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا” [الفتح: 8].
ثم يأتي الموضع “الثالث” لورود مصطلح “شَٰهِدٗا”، الذي يخص الرسول عليه الصلاة والسلام؛ نعني قوله عزَّ من قائل: “إِنَّآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ كَمَآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا” [المزمل: 15]. إذ هاهنا يتأكد لدينا أن شهادة الرسول هي الشهادة المقصودة، أي شهادة مقام الرسالة؛ وبالتالي، فهي شهادة تختص بالرسالة.. فكما أن الله سبحانه قد أرسل من قبل “إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا”، فقد أرسل إلى الأمة المحمدية “رَسُولٗا”؛ لكنه ليس مجرد رسول، بل هو “رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ”.. أي شاهدًا بصفته “رسولا”، على هذه الأمة.
وهكذا.. نُعيد التأكيد على أن دور الشاهد في التنزيل الحكيم، يُعتبر تكليفًا منوط به أفراد وشخصيات، تأتي كلها في دوائر متتالية مركزها هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وأيًا تكن دائرة الشاهد، فإن الدور المنوط به ليس دورا اختياريا طوعيا؛ بل -في غالب الأحيان- هو تكليف للشاهد بحكم صفته أو خصوصية موقعه.
كذلك، نُعيد التأكيد على أن تعدد الشهود لا يختص بالإنسان أو الناس فقط؛ ولكنه يتعدى ذلك إلى أعضاء الإنسان وجوارحه، التي تُستنطق للشهادة على الإنسان في اليوم الآخر.
في اليوم الآخر، كما يأتي التأكيد في التنزيل الحكيم، تُستنطق للشهادة على الإنسان- أعضاؤه وجوارحه: الأرجل والأيدي، والسمع والبصر والجلد؛ فكلها تأتي “شهود إثبات”، وربما “نفي” عن صاحبهم.
إذ يدعوهم الخالق تبارك وتعالى الذي يجعلهم ينطقون، ليشهدوا من واقع قربهم وعدم تعرضهم لـ”الإفساد”.
في معرض التأكيد على شهادة الجوارح، يقول عزَّ وجل: “يَوۡمَ تَشۡهَدُ عَلَيۡهِمۡ أَلۡسِنَتُهُمۡ وَأَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ” [النور: 24]. ولنا أن نُلاحظ هنا، السياق القرءاني الخاص بهذه الشهادة؛ حيث إنها تختص بمسألة مُحددة، هي تلك التي جاء ذكرها في الآية السابقة مباشرة لهذه الآية، نعني قوله سبحانه: “إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡغَٰفِلَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ” [النور: 23].. ولأن المسألة لا تتوقف عند حدود الشهادة، ولكنها تتعداها إلى الجزاء الحق، يقول تعالى في الآية التالية مباشرة: “يَوۡمَئِذٖ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلۡحَقَّ وَيَعۡلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ ٱلۡمُبِينُ” [النور: 25].
وليس هذا هو الموضع الوحيد، الذي تؤكد فيه آيات التنزيل الحكيم شهادة الجوارح على الإنسان؛ ففي موضع آخر، يقول عزَّ من قائل: “ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ” [يس: 65]. وهنا، نُلاحظ كيف يختم الله جل جلاله على “الأفواه”، ويستنطق “الأيدي” وتشهد “الأرجل” على كل شيء، وهو ما يدل عليه التعبير القرءاني “بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ”.
وفي موضع أخير، على شهادة الجوارح، يقول الله جلَّ جلاله: “وَيَوۡمَ يُحۡشَرُ أَعۡدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ ٭ حَتَّىٰٓ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيۡهِمۡ سَمۡعُهُمۡ وَأَبۡصَٰرُهُمۡ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٭ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَيۡنَاۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٭ وَمَا كُنتُمۡ تَسۡتَتِرُونَ أَن يَشۡهَدَ عَلَيۡكُمۡ سَمۡعُكُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُكُمۡ وَلَا جُلُودُكُمۡ وَلَٰكِن ظَنَنتُمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَا يَعۡلَمُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَعۡمَلُونَ” [فصلت: 19-22].
وكما يتبدى بوضوح، فإن السمع والأبصار والجلود تشهد على الناس “بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ”؛ وعندما تُسأل الجلود عن السبب في الشهادة، يأتي الجواب الحاسم “قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ”، بما يعني أن السؤال عن شيء، في حين يأتي الجواب عن شيء آخر؛ فالسؤال عن “السبب” في الشهادة، والجواب عن “الكيفية” في الإدلاء بالشهادة، بما يُشير إلى أن المسألة، مسألة الإدلاء بالشهادة، ليست اختيارية.
اللافت هنا، أن الجوارح ترقى إلى هذه الدرجة بفضل ما تتميز به من درجة الشهود؛ ومن قبل ذلك، بفضل مشيئة الخالق الأعظم وقدرته على إنطاقهم، أي جعلهم ينطقون. واللافت أيضا، هو دلالات التعبير القرءاني “ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ”؛ ولعل أهم هذه الدلالات أن كل شيء في الوجود له لغة خاصة به، لغة ينطق بها ويتحدث بها ويتفاهم بها.
والأدلة القرءانية على ذلك، متعددة؛ يقول سبحانه: “حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ” [النمل: 18].. بما يدل على أن للنمل لغة يتفاهمون بها؛ بل ويدل على اليقظة والمنطق في الحكم، وهو ما يتضح في ختام الآية الكريمة “وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ”.
كذلك، حديث الهدهد إلى نبي الله سليمان، في السورة نفسها؛ كما يأتي في قوله تعالى: “فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ ٭ إِنِّي وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِيَتۡ مِن كُلِّ شَيۡءٖ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِيمٞ” [النمل: 22-23].. بما يؤكد على أن الهدهد له لغة خاصة به، ولولا أن الله سبحانه وتعالى علَمَّ نبيه سليمان عليه السلام لغة الهدهد، ولغة النمل، ما فهم سليمان هذه أو تلك.
وللحديث بقية.