تلعب المصارف المركزية دورا محوريا في استقرار الاقتصاد في أي دولة، حيث تتمثل مسئولياتها في تنظيم السياسة النقدية، وإدارة الاحتياطات، فضلا عن إصدار العملة الوطنية. لكن في الدول التي تواجه صراعات سياسية أو حروب أهلية، ونماذجها في الإقليم: ليبيا ولبنان واليمن، تبرز تحديات كبرى أدت إلى تداعيات واسعة النطاق، على الاقتصاد والمجتمع.
وفي هذه الدول الثلاث، شهدت أزمات المصارف المركزية آثارا سلبية على الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهو ما تبدى بوضوح في تدهور قيمة العملة، وفقدان الثقة في المؤسسات المالية، إضافة إلى التدخلات السياسية الدولية والإقليمية.
بملاحظة أزمات المصارف المركزية، في ليبيا ولبنان واليمن، تظهر العديد من عناصر التشابه بين هذه الدول، في ما يتعلق بتأثير الصراعات السياسية والعسكرية على القطاع المالي والمصرفي. وفي الوقت نفسه، تختلف هذه الدول في طبيعة الأزمات التي واجهتها وكيفية تعاملها معها.
أولا، سمات التشابه بين أزمات المصارف المركزية: ضمن أهم هذه السمات التي تتشابه فيها دول الصراعات، تأتي التالية:
(1) تقويض استقلالية المصارف المركزية: حيث تشترك هذه الدول الثلاث، في أن الصراعات السياسية والحروب الأهلية الداخلية، تسببت في تقويض استقلالية المصارف المركزية، ما أدى إلى تدهور قدرتها على إدارة السياسات النقدية. وفي كل هذه الحالات، واجهت المصارف المركزية في هذه الدول، ضغوطا سياسية شديدة أثرت على قدرتها في الحفاظ على استقرار العملات الوطنية والسياسات النقدية.
وبالتالي، شهدت العملات الوطنية في الدول الثلاث، الدينار الليبي والليرة اللبنانية والريال اليمني، تدهورا حادا في قيمتها أمام العملات الأجنبية، نتيجة عدم استقرار أداء المصارف المركزية، وعدم قدرتها في الحفاظ على احتياطات نقدية كافية؛ وهو ما ساهم في التأثير السلبي على القوة الشرائية للمواطنين، وتفاقم نسبة الفقر.
(2) فقدان الثقة في النظام المصرفي: ففي الدول الثلاث، أدى تدهور أداء المصارف المركزية إلى فقدان الثقة في النظام المصرفي بشكل عام؛ ما ساهم في لجوء المواطنين إلى الاقتصاد غير الرسمي، و”السوق الموازية”، للحصول على العملات الأجنبية، وهو ما ساهم في تفاقم الأزمة الاقتصادية وزيادة نسبة التضخم.
ومن ثم، ونتيجة لأزمات المصارف المركزية، وانهيار الاقتصاد في الدول الثلاث، أصبحت هذه الدول تعتمد بشكل متزايد على المساعدات الخارجية لتأمين الاحتياجات الأساسية. ففي ليبيا واليمن، كانت المساعدات المالية والغذائية تلعب دورًا مهمًا في تلبية الحاجات الإنسانية؛ بينما في لبنان اعتمدت البلاد على الدعم الدولي لتخفيف أزمة نقص الوقود والسلع الأساسية.
ثانيًا، عناصر الاختلاف بين أزمات المصارف المركزية: ضمن أهم هذه العناصر التي تختلف بها دول الصراعات عن بعضها البعض، تأتي التالية:
(1) تأثير الموارد الطبيعة على السياسات النقدية: ففي ليبيا، التي تعتمد بشكل كبير وأساسي، على إيرادات النفط، ساعدت هذه الإيرادات على اكتساب ليبيا ميزة نسبية، في تأمين الموارد المالية؛ إلا أن الانقسام بين حكومتين، أدى إلى إعاقة الاستخدام الفعال لهذه الإيرادات.
أما لبنان، على عكس ليبيا، فهو لا يمتلك موارد طبيعية كبيرة لدعم اقتصاده، ما يجعل الأزمة الاقتصادية أكثر حدة؛ حيث يعتمد البنك المركزي على الدعم الخارجي وتحويلات المغتربين، ما يزيد من هشاشة الاقتصاد.
وبالنسبة إلى اليمن، فهو يمتلك موارد نفطية وغازية، إلا أنها متواضعة، ولذلك فهو يأتي في منزلة وسطى بين ليبيا ولبنان؛ رغم ذلك، فهذه الموارد لم تُستغل بشكل جيد بسبب الصراع المستمر، وهو ما أثر على قدرة البنك المركزي في تأمين الاحتياطات النقدية، اللازمة لحماية الاقتصاد من الانهيار.
(2) الاختلاف في طبيعة الصراع الداخلي: ففي ليبيا، يتسم الصراع الداخلي بكونه متمركزا بين حكومتين متنافستين، ما أدى إلى وجود سلطتين بنكيتين متنافستين أيضا. هذا الانقسام ساهم في وجود أزمة مزدوجة في إدارة المصرف المركزي الليبي، وخصوصا في ما يتعلق بإيرادات النفط.
أما في لبنان، فلم تكن الأزمة نتيجة حرب أهلية مباشرة، بل كانت نتيجة لتفاقم “الفساد” السياسي و”الانقسامات” الحزبية. ولأن المصارف اللبنانية كانت تعتمد على سياسات مالية غير مستدامة، وعلى ديون متراكمة، فقد أدى ذلك إلى جعل الأزمة أكثر تعقيدا من الناحية المالية مُقارنة بكل من ليبيا واليمن.
بالنسبة إلى هذا الأخير، اليمن، يبدو اختلاف الوضع عن مثيليه في ليبيا ولبنان، بسبب الحرب الأهلية المستمرة منذ سنوات، بين الحكومة وجماعة الحوثيين. وقد أدى هذا الصراع إلى انقسام البنك المركزي نفسه، ما أدى إلى تعقيد السياسات النقدية وكيفية إدارتها في البلاد.
ثالثا، التداعيات المتوقعة لأزمات المصارف المركزية: نتيجة الأزمات التي تمر بها الدول الثلاث، ليبيا ولبنان واليمن، ونتيجة تراجع أداء المصارف المركزية فيها، يمكن الإشارة إلى أهم التداعيات المتوقعة، كما يلي:
(1) انخفاض الاحتياطات النقدية: فالاحتياطات النقدية تُعد أحد الأدوات الأساسية التي يعتمد عليها البنك المركزي، للحفاظ على استقرار العملة الوطنية وتمويل الواردات. إلا أنه -في هذه الدول الثلاث- وجدت المصارف المركزية نفسها في مواجهة نقص حاد في الاحتياطات، بسبب السياسات الاقتصادية غير المستدامة والأزمات الداخلية. ومن ثم، فمن المتوقع ازدياد التراجع في الاحتياطات النقدية في هذه الدول.
ففي ليبيا، انخفضت الاحتياطات بشكل واضح، بما يُساهم في تنامي الفجوة بين السعر الرسمي للدينار الليبي، وسعر السوق. وفي لبنان، استنزفت احتياطات البنك المركزي، بسبب السياسات الفاشلة في النظام المصرفي؛ ومن المتوقع المزيد من التراجع في سعر الليرة اللبنانية، بما يُزيد من الأزمة الاقتصادية لهذا البلد. ثم، يأتي اليمن، الذي يشهد الانقسام بين بنكين مركزيين، ليكون من المتوقع أن يزداد التراجع في قيمة الريال اليمني، وازدياد الاعتماد على “السوق الموازية” في تأمين العملات الأجنبية، بما لذلك من تأثيرات سلبية على مستوى معيشة المواطنين وتزايد نسبة الفقر بينهم.
(2) تراجع استقلالية المصارف المركزية: ففي هذه الدول الثلاث، من المتوقع أن يتزايد التراجع في استقلالية المصارف المركزية، نتيجة للصراعات السياسية؛ هذا، فضلا عن تزايد الضغوط، سواء الدولية أو الإقليمية، وكذلك الداخلية، على هذه المصارف؛ بل والتدخل في عملها وكيفية إدارتها للسياسات المالية.
ففي ليبيا، سوف يتزايد استخدام المصرف المركزي لتحقيق مكاسب سياسية، ومادية. وفي لبنان، ستزداد الضغوط السياسية من الأحزاب الحاكمة، على البنك المركزي، ما سوف يؤثر على قراراته وسياساته النقدية، “غير المستدامة” أصلا. أما في اليمن، فمن المتوقع أن يزداد التدخل السياسي، من قبل الأطراف المتصارعة، في سياسات البنك المركزي؛ المنقسم أصلا، بما سوف يُضعف من التحكم في الأوضاع المالية في البلاد.
في هذا السياق، يمكن القول بأن الأزمات التي واجهتها المصارف المركزية، في دول الصراعات في الإقليم، ليبيا ولبنان واليمن، تعكس تأثير الصراعات السياسية والعسكرية على أداء هذه المصارف، في الحفاظ على استقرار الاقتصاد، وإدارة السياسات النقدية؛ مما أدى إلى التراجع في مستوى المعيشة وتزايد معدلات البطالة والفقر.
ورغم التشابهات الكبيرة في الأزمات التي واجهتها المصارف المركزية، في الدول الثلاث، إلا أن طبيعة الأزمات، وتداعياتها، من دولة إلى أخرى، استندت إلى الاختلاف في طبيعة الصراع الداخلي، ودور التدخلات الخارجية.