مع يناير القادم.. تعود الولايات المتحدة الأمريكية إلى “الحكم الترامبي” من جديد؛ بما يُثير الكثير من التكهنات حول العلاقات الأمريكية مع عديد من مناطق ودول العالم المختلفة، ومن بينها القارة العجوز.. أوروبا. إذ، يُعيد فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، إلى الواجهة المخاوف الأمنية الأوروبية؛ وذلك نتيجة توجهه السابق، أثناء ولايته الأولى، الخاص بتقليص الالتزامات الأمريكية تجاه حلف “ناتو”؛ خاصة أنه هدد، أثناء رئاسته السابقة، ولاحقًا خلال حملته الانتخابية، بمغادرة “ناتو”، في إطار محاولته زعزعة الثقة بالمادة “5” من معاهدة الحلف، التي تُعنى بالدفاع الجماعي.
بعد إعلان فوز دونالد ترامب، تصاعدت التساؤلات بشأن تأثير هذا الحدث على العلاقات الدولية، وخصوصا على العلاقات بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلف شمال الأطلسي “ناتو”. كانت تصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية، ومواقفه العلنية تجاه أوروبا وناتو، محط أنظار العالم؛ فقد تحدث ترامب مرارا عن الحاجة إلى إعادة النظر في “الشراكات التقليدية”، وإلى تحميل حلفاء الولايات المتحدة مسئوليات أكبر في ما يتعلق بالدفاع المشترك.
لذا، فإن فوز ترامب أثار الكثير من المخاوف في العواصم الأوروبية حول مستقبل تلك العلاقات، لا سيما في ظل التوترات، التي كانت قد بدأت تلوح في الأفق منذ سنوات، بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.. وهو ما يتبدى عبر أكثر من جانب:
من جانب، هناك التوجهات الانعزالية التي يتبناها ترامب؛ إذ خلال فترة ولايته الأولى، بدأ ترامب في تطبيق سياسات انعزالية تعكس رؤيته القومية الواضحة، التي وضعها في صلب حملته الانتخابية تحت شعار “أمريكا أولا”، وهي السياسات التي دفعت بالولايات المتحدة نحو تقليل التزاماتها على الساحة الدولية، خاصة تجاه الشركاء الأوروبيين، حيث أبدى ترامب تفضيلا واضحا للعلاقات الثنائية على حساب التحالفات التقليدية المتعددة الأطراف، مثل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. هذه التوجهات تُثير قلقا واسعا في الأوساط الأوروبية، خاصة تلك التي تعتمد بشكل كبير على الدعم العسكري الأمريكي، بوصفها جزءا من التزامات الناتو.
من جانب آخر، هناك مسألة التوتر الخاص بالسياسات التجارية الأمريكية؛ حيث إن أحد أهم جوانب التوتر بين الولايات المتحدة وأوروبا، في عهد ترامب السابق، كانت السياسة التجارية. فقد اتبع ترامب نهجا حمائيا، من خلال فرض رسوما جمركية على العديد من السلع المستوردة، بما في ذلك الصلب والألمنيوم، من الاتحاد الأوروبي. هذه الإجراءات قوبلت بانتقادات حادة من الجانب الأوروبي، الذي رأى فيها انتهاكا لقواعد التجارة العالمية الحرة، وتحديا للمصالح الاقتصادية الأوروبية. كما أن ترامب انتقد الاتحاد الأوروبي بوصفه “شراكة غير عادلة” في المجال التجاري، ما زاد من حدة التوتر بين الجانبين.
بل، إن تهديد ترامب خلال حملته الانتخابية، بفرض رسوم تصل إلى “10%” على واردات الاتحاد الأوروبي، يُمثل تحديا اقتصاديا ضخما، خاصة لدولة مثل ألمانيا التي تعتمد على صادراتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية بشكل كبير.
من جانب أخير، هناك تباين المواقف بين أوروبا والولايات المتحدة حول قضايا الهجرة والأمن؛ إذ بينما تبنت أوروبا سياسات أكثر انفتاحا واستقبالا للاجئين، خاصة من مناطق النزاع مثل سوريا، كانت سياسات ترامب، السابقة، قائمة على تقليل استقبال اللاجئين، وبناء جدار حدودي مع المكسيك لمنع الهجرة غير الشرعية. هذه الاختلافات في السياسات، خاصة في حال استمرارها، تعكس تصورات متباينة للعالم والمصالح الأمنية لكل من الولايات المتحدة في ظل “الحكم الترامبي” وأوروبا.
من هنا، يدرك القادة الأوروبيون ضرورة تحسين القدرات الدفاعية الذاتية للاتحاد الأوروبي، وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية، في مواجهة السياسات الأمريكية الجديدة المحتملة. أضف إلى ذلك، أن سياسات ترامب كانت قد تضمنت أيضا، قرارات بالانسحاب الجزئي للقوات الأمريكية من مناطق استراتيجية في أوروبا، مثل قراره بنقل بعض القوات الأمريكية من ألمانيا إلى دول أخرى مثل بولندا وبلجيكا.
مثل هذه القرارات تزيد من القلق الأوروبي حول مدى التزام الولايات المتحدة تجاه الحلف؛ بل والمخاوف من تراجع الدور الأمريكي، بصفته ضامنا أساسيا للأمن الأوروبي.. وهو ما يتبدى عبر أكثر من جهة، كالتالي:
من جهة، هناك انتقادات ترامب لحلف الناتو؛ فمنذ بداية حملته الانتخابية، أعرب ترامب عن عدم رضاه تجاه حلف “ناتو”، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة تتحمل عبئا ماليا أكبر من اللازم في الدفاع عن أوروبا. مُكررا انتقاداته للحلف خلال فترة رئاسته السابقة؛ ومُعتبرا أن بعض الدول الأعضاء لا تفي بالتزاماتها المالية الخاصة بالإنفاق الدفاعي. هذه الانتقادات تُثير مخاوف كبيرة بين حلفاء الولايات المتحدة في “ناتو”، الذين رأوا في هذه التصريحات تهديدا لأسس الحلف القائمة على الدفاع المشترك.
من جهة أخرى، هناك التحولات في الأولويات الاستراتيجية الأمريكية؛ فقد أظهرت إدارة ترامب السابقة، ميلا لتغيير أولوياتها الاستراتيجية داخل الحلف. ففي حين كانت روسيا تعتبر التهديد الرئيس للأمن الأوروبي خلال عقود ما بعد الحرب الباردة؛ كان ترامب أقل حماسة تجاه هذه الفكرة. بل على العكس، سعى ترامب إلى تحسين العلاقات مع روسيا، ما أثار قلقا بين الدول الأوروبية الشرقية الأعضاء في الحلف، مثل بولندا ودول البلطيق، التي تعتمد بشكل كبير على الدعم الأمريكي في مواجهة التهديدات الروسية.
من جهة أخيرة، هناك مسألة التأثير على وحدة “ناتو” بوصفه حلفا؛ إذ رغم الانتقادات المتكررة من ترامب، فإن الحلف لم ينهر خلال فترة رئاسته، ولكنه واجه تحديات خطيرة تمثلت في تآكل الثقة بين الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين. كانت هذه التوترات تهدد وحدة الحلف، خاصة مع تصاعد الدعوات في بعض الأوساط الأوروبية إلى تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، وتعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية المستقلة.
في هذا السياق، يمكن القول بأنه مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، في فترة رئاسة “ثانية”، تبرز بعض المخاوف من إعادة تشكيل العلاقات الدولية بطريقة تدفع إلى “تهميش” الدور الأوروبي. ولنا أن نتأمل كيف استبق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تنصيب دونالد ترامب في يناير المُقبل، بالدعوة إلى تعزيز “الاستقلالية الاستراتيجية” للقارة الأوروبية، مؤكدا أن أوروبا بحاجة إلى اتخاذ موقف مستقل، في ظل عدم اليقين تجاه الالتزامات الأمريكية.
وقد جاءت دعوة ماكرون هذه، منذ أيام قليلة، في 7 نوفمبر الجاري، خلال قمة “المجتمع السياسي الأوروبي”؛ التي أكد فيها ماكرون على أن الأوروبيين لا يجب أن يفوِّضوا أمنهم للأمريكيين إلى الأبد، بما يعكس مخاوف من تبعية أوروبية دائمة للولايات المتحدة الأمريكية.