في كتابه “الصهيونية وخيوط العنكبوت” وفي فصل خصصه للمقارنة بين “الاستيطان الصهيوني والاستيطان الصليبي” يبين المفكر العربي الدكتور عبد الوهاب المسيري، أوجه التشابه بين المشروعين: الصليبي والصهيوني.
حيث إن كلا المشروعين أتى لحل تناقضات داخلية في أوروبا، عبر تصديرها إلى المشرق العربي، وكلاهما أتى إلى هذا المشرق عبر البحر، وكلاهما تعبير عن مشروع استعماري استيطاني.
ويشير المسيري إلى إدراك ساسة أوروبا لأوجه التشابه بين المشروعين، ويستشهد بمقولة لويد جورج رئيس الحكومة البريطانية، التي منحت الصهاينة وعد بلفور الشهير، والذي وصف احتلال الجنرال البريطاني اللنبي لفلسطين خلال الحرب العالمية الأولى، بأنه “آخر الحملات الصليبية”.
ويضيف المسيري أن الصهاينة أيضا يدركون التشابه بين دولته والإمارات الصليبية التي أقامها الأوروبيون في الشام، ويدركون – بالتبعية- أن أزمة الكيان الصهيوني لا تختلف كثيرا عن أزمة الإمارات الصليبية.
حيث عانت تلك الإمارات من أزمة سكانية مع انخفاض عدد السكان مع مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، وبالتالي من نقص في “المادة البشرية”.
وهو ما يعاني منه أيضا الكيان الصهيوني؛ خاصة بعد أن جفت منابع الهجرة إلى الكيان من يهود شرق أوروبا.
وهو ما يدركه الصهاينة تماما، ويجعلهم يخشون على كيانهم من مصير مماثل لمصير الكيانات الصليبية، حيث عقد رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق إتسحاق رابين مقارنة في شهر سبتمبر من عام ١٩٧٠، بين التجربتين وحذر من أن الخطر الأساسي الذي يواجه الدولة الصهيونية هو “تجميد الهجرة” والذي سيؤدي بالضرورة إلى اضمحلال الدولة، بسبب عدم سريان دم جديد في أوردتها.
ما أشار إليه الدكتور المسيري، وما حذر منه مجرم الحرب الصهيوني رابين؛ يبدو أنه استحال واقعا الآن بعد أكثر من عام، من اندلاع معركة “طوفان الأقصى”.
لم تعد أزمة “النقص” البشري -المشار إليها أعلاه- خافية على أحد في الكيان الصهيوني، حيث إن صحافة العدو تعترف بها صراحة.
فقد اعترف تقرير لصحيفة يديعوت أحرونوت العبرية في الرابع من نوفمبر الجاري، أن الجيش الصهيوني يعاني مما أسمته “نقصا هائلا” في عدد الجنود الذي يحتاجه لاستمرار المعركة.
وأضافت أن الجيش يحتاج بشكل عاجل إلى سبعة آلاف جندي، وهو عدد يصعب توفيره في ظل رفض ٣٣ % من المجندين الذكور، الحضور إلى مقرات التجنيد وهروب ١٥% من الخدمة العسكرية، ورفضهم تسجيل أسمائهم جنود احتياط.
ونقلت الصحيفة عن مسئولين عسكريين قولهم: إن سبب هذا النقص هو التهرب من الخدمة بشكل متسلسل، من قبل مجندين لا يمكن إحضارهم بالقوة.
تقرير الصحيفة أتى ليؤكد ما ذكره تحقيق صحفي فرنسي في يونيو الماضي، نقل عن أهارون برجمان الخبير في الصراع العربي الصهيوني قوله: إن الجيش الصهيوني “مجهد” بعد أشهر من القتال العنيف، وأن قادته بحاجة إلى توقف القتال لبرهة لتجميع قواهم.
ولا تخفي الصحافة العبرية أن السبب الأساسي في حالة النقص المذكورة أعلاه، هي الخسائر البشرية التي يتعرض لها الجيش الصهيوني، على جبهتي قطاع غزة وجنوب لبنان.
حيث نقل مراسل إذاعة الجيش الصهيوني دورن كادوش بيانات وصفها بالصعبة عن هذه الخسائر، من بينها أن الجيش فقد 793 قتيلا منذ بداية الحرب.
370 منهم في معارك قطاع غزة و40 في معارك جنوب لبنان.
وإن 192 ضابطا قتلوا في الحرب، وواحد من كل أربعة قتلوا هو قائد، كما أن من بين كل الذين قتلوا،48% من المجندين النظاميين، 18% موظفين دائمين. 34% مجندين في الاحتياط.
واعترفت إذاعة جيش العدو أيضا، بأن الجيش سيضيف 600 قبر جديد للجنود، في المقبرة العسكرية في جبل هرتزل في القدس، وأنه ستحول مساحة 7.7 دونم من مساحة جبل هرتزل لوزارة الجيش، من أجل توفير مكان لدفن القتلى.
كما وصف الكاتب يوآف ليمور، في جريدة يسرائيل هيوم، أرض لبنان بأنها باتت متشبعة بدماء أجيال من مقاتلي جولاني، وهو أحد ألوية النخبة في الجيش الصهيوني.
ولعل هذا ما دعا رئيس مجلس الأمن القومي السابق غيورا آيلاند، صاحب ما يعرف بـ”خطة الجنرالات” للقول صراحة أن “معارك غزة ولبنان لا تقود إلا لمقتل مزيد من جنودنا”.
ومما يزيد من وطأة أزمة “النقص” البشرية في الكيان الصهيوني، ارتفاع معدلات الهجرة العكسية من الكيان، حيث ذكرت صحيفة هآرتس العبرية، أن هناك ارتفاع في عدد الإسرائيليين، الذين غادروا إلى كندا بنسبة 500٪ منذ السابع من أكتوبر، وأن نحو 8 آلاف إسرائيلي هاجروا إلى كندا منذ بداية العام الحالي، مقابل 1505 في سنة 2022، وأن عددا من الإسرائيليين يأخذون عائلاتهم إلى كندا، والتقديرات تشير إلى تجاوز عدد الذين هاجروا 10 آلاف منذ بداية العام.
كل ما سبق، دفع المحلل العسكري في صحيفة هآرتس عاموس هرئيل للتحذير من “العبء الثقيل جدا على جنود الاحتياط، والذي لا يُحتمل”.
ولا يملك المتابع لمجريات المعركة الدائرة منذ أكثر من عام- إلا المقارنة بين مجتمع يتهرب أفراده سواء من الحريديم (اليهود المتدينين) أو غيرهم من ساحات القتال.. ومقاومة لا تجد أي صعوبة في تجنيد المزيد من المقاتلين إلى صفوفها، في كل من قطاع غزة وجنوب لبنان، مدفوعين بدوافع مناقضة تماما لتلك التي تدفع الصهاينة إلى الهروب من الجيش ومن الكيان ككل.