ثقافة

أحفاد الفندلاوي

في قلب العاصمة السورية دمشق وتحديدًا في إحدى أحيائها القديمة أو ما يحلو لأهل المدينة تسميته بالـ”شام العتيقة” وعلى مقهى شعبي هناك يجلس “الحكواتي” أو الراوي الشعبي الحافظ لتراث يضم الآلاف الروايات مستندًا على مقعد عال عن الارض ممسكًا بعصاه وفاتحًا لكتاب الحكايات أمامه لكي يروي على مستمعيه المشدودين لكل كلمه ينطقها قصة الفندلاوي.

والفندلاوي هذا يا دام عزك هو شيخ فقيه اسمه الكامل يوسف بن دوناس المغربي الفندلاوي٫ وكما يوحي الاسم فقد وفد هذا الشيخ الكفيف من بلاد المغرب على أرض الشام في زمن الحروب الصليبية٫ إذ كان انتقال الفرد حينها بين بلدان العرب المختلفة أمرا يسيرا بل ومالوفا ايضا ولم يكن السيدان سايكس وبيكو قد قسما أرض العرب بعد إلى كيانات قُطرية واضعين بينها حدودًا مصطنعة لا وجود لها على الطبيعة.

أتى الفندلاوي الشام وهو في طريقه إلى الحج ثم استقر في مدينة بانياس وعمل خطيبا في مسجدها ثم انتقل منها إلى دمشق ليُدرس أهلها الفقه ويقرأ عليهم كتاب الموطأ للإمام مالك.

وبينما الفندلاوي في دمشق إذ بجيوش الفرنجة وهو الاسم الذي خصهم به المؤرخون المسلمون رافضين استخدام لقب”صليبيين” في إدراك فطري منهم ان هؤلاء الاوروبيين القادمين عبر البحر لا يمثلون الصليب ولا صاحبه -عليها لسلام- وان ادعوا ذلك٫ تهاجم دمشق رغم مهادنة حاكمها معين الدين أنر لهم فيما عُرف بالحملة الصليبية الثانية.

غيرت هذه الحملة من خارطة التحالفات فبعد أن كان معين الدين صديقا للفرنجة هرع يطلب النجدة من صاحب حلب نور الدين محمود بن زنكي الذي كان العدو اللدود لهم.

إلا أن الفندلاوي ومعه عامه دمشق ما كان لهم أن يقفوا مكتوفي الأيدي منتظرين وصول جيش حلب لنجدتهم ومدينتهم تتعرض للعدوان فخرج العامة يغيرون على معسكرات العدو بما توافر لهم من سلاح بسيط.

وبطبيعة الحال، خرج الفندلاوي وبيده “نبوت” وحين رآه حاكم المدينة معين الدين أنر اشفق عليه لكبر سنه وضعف بصره فنصحه أن يعود إلى المدينة وأن يكفيه الجٌند مشقة القتال إلا أن الشيخ الجليل رفض ذلك وقال : “قد بعت واشترى الله تعالى مني” في إشاره إلى الآية الكريمة “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” (التوبه ١١١)

ثم هًم الفندلاوي فهجم على جيش العدوان بنبوته وظل يقاتلهم حتى نال الشهادة التي طالما تمناها.

لم يمكث الفرنجة طويلا بعد ذلك في حصارهم لدمشق إذ سرعان ما أدركوا فشل حملتهم في تحقيق أهدافها وقفلوا راجعين إلى أوروبا.

بعد قرون طوال من استشهاد الفندلاوي سيخرج من ذات الأرض التي افتداها بروحه شيخ جليل مثله يدعى عز الدين القسام سيكون رمزًا للجهاد والمقاومة ضد كل من الاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني على أرض فلسطين وهي التي شهدت مقتله في معركه بطوليه دفاعاً عنها في أحراش يعبد في الضفة الغربية في ثلاثينيات القرن العشرين.

ومن نفس الأرض أيضًا٫ أي أرض الشام٫ سيخرج شاب مسيحي من أبناء مدينة اللاذقية هو جول جمال٫ الضابط البحري الذي استشهد في أرض مصر عام ١٩٥٦ وهو يدافع عن ثراها ضد عدوان شنه على أرض الكنانة أحفاد أولئك الذين قاتل ضدهم الفندلاوي.

اتذكر كل من الفندلاوي وأحفاده -إن صح التعبير- كلما قال قائل: “ما لنا وفلسطين؟ أو مالنا والعرب؟ فليحل كل قُطر أزماته وحده”.

فأقوم بسرد هذه الأمثلة لأقول: يا قوم٫ هذه أمتكم أمة واحدة٫ لم يرى الفندلاوي فارقا بين أرض الشام وأرض المغرب ولم تكن أرض يعبد بالنسبة للقسام أرضا أجنبية ولا أدل من قول جول جمال “عندما أرى شوارع الإسكندرية كأني أرى شوارع “اللاذقية”.. وأنا لا أرى بلدين٫ أنا أرى بلدا واحدا”.

إن سيوف الغزاة لم تفرق بين الفندلاوي وأهل دمشق ولم يمتنع جُند العدوان عن قتل جول جمال بسبب عقيدته٫ فهؤلاء الغزاة وأن ابتدعوا لنا حدودا وقسمونا طوائفًا وفرقا يدركون تمام الإدراك وإن أنكروا أننا أمة واحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock