الأديب الكبير يحيي مختار المهموم بمشكلات الوطن وبنبض النوبة تحديدا, له مجموعة قصصية رائعة اسمها “عروس النيل”.
المجموعة الصغيرة تضم أربع قصص قصيرة, كلها من النوبة وعن النوبة, يرصد مختار في قصة “عروس النيل” حقيقة يتناساها مجتمعنا اليوم, ألا وهي قضية العبودية, التي استمرت حتي بدايات القرن العشرين في جنوب مصر.
يحكي كاتبنا عن عبدٍ مُحررٍ مجلوبٍ من أفريقيا؛ استقر في قرية نوبية عند سيده, وتزوّج وأنجب ابنة جميلة (فريدة) وهي التي يطمع فيها ابن عمدة القرية، فيعتدي عليها وتَحْمَل ويقرر كبراء القرية أن يجهضوا الفتاة.
يغادر عبد الرحمن “العبد المحرر” وأسرته قريتهم (الطاهرة), وكعادة كل المجتمعات الذكورية, لا يلومون المعتدي؛ بل يلومون الضحية. يقرر عبد الرحمن أن يغسل عاره بقتل فلذة كبده؛ فيغافل أمها ويأحذ الفتاة المغدورة في قارب؛ يجدف به لمنتصف النيل بغرض قتلها. ذلك المونولوج الداخلي الذي يجول بنفس الفتاة الخائفة من أبيها، الذي تحبه وتعوّدت أن تحتمي به.. وكذلك الوجع النبيل الذي أحسه عبد الرحمن، منذ بداية أَسْرِه واستعباده؛ حتي فضيحة ابنته الحبيبة, ووسط السرد الممتع والمونولوج الداخلي؛ تقرر الفتاة أن تُخلِّص أباها من عاره المقيم، ومن معضلة قتلها بيديه, فتقرر إلقاء نفسها في النيل وتنتحر.
أما القصة الثانية “واقعة” فهي تحكي عن مجتمع النوبة القديمة المغلق, ذلك الذي يتوجَّس خيفةً من الأغراب (صعايدة وبشارية وعبابدة) ومن انغلاقهم لا يفقهون اللغة العربية, يفاجئ سكان القرية بشخص غريب حسبوه لصا؛ فحبسوه وضربوه واستدعوا شبابهم المتعلم الذي يعرف اللغة العربية؛ ليتفاهم مع الغريب. ويتضح أنه “محمدين” صعيدي من المنيا، وليس لصا ولا سارقا ولا هاربا من العدالة, وحين يتقرب إليه الشباب المتعلم ويثق بهم؛ يعرفون حكايته وقصته, وقصته أنه فلاح من المنيا, تورَّط أبوه في قتل شخص ما أخذا للثأر, ولم يتحمل الشاب دوامة الثأر هذه؛ فقرر الهرب من هذه الدائرة الجهنمية؛ بالفرار لجنوب مصر. ويعيش محمدين في القرية التي يتربص به ثلاثة من سكانها الأشرار، ويرفضون وجوده غير المنطقي وغير المبرر -من وجهة نظرهم- فيقرر ثلاثتهم – في ليلة- أن يهجموا عليه، وأن يمارسوا ضده فعلا شنيعا يجرده من رجولته ويخصونه, يحدث هذا دون أن يخبرنا الكاتب بالسبب الذي دعاهم لفعل ذلك, فالشاب حسب سرد الكاتب، لم يفعل شيئا يستفزهم؛ ولكنه الشر الكامن في النفوس.
أما القصة الثالثة “الطرد” فهي تحكي عن قري النوبة الطاردة لأبنائها؛ بعد التعلية الثانية لخزان أسوان في العام 1933، فلا زراعة ولا صيد ولا أي نشاط يمكن القيام به, يهاجر رجال النوبة القادرين علي الكسب والعمل للقاهرة, يتجمعون في حي عابدين، يعملون ويرسلون حوالات بريدية لذويهم، ويتركون نسائهم حبالي وينجبن, وتنتظر الأمهات الحوالات البريدية مع الطرود، التي تحمل أقمشة وروائح وفاكهة وخطابات يقرر فيها الأب تسمية ابنه او ابنته. يلفت الكاتب نظرنا إلى الباخرة “البوستة” التي ينتظرها أبناء القرى النوبية والتي تحمل الطرود والخطابات, ونلمح من طرف خفي العنصرية التي مارسها أهل القاهرة ضد النوبيين والسودانيين في فترة الكساد الكبير 1929-1933، وفي حقبة الحرب العالمية الثانية, تلك الممارسات التي دفعت رجال النوبة الذين اصطحبوا زوجاتهم إلى عابدين إلى إرسالهم إلى قراهم, إذ ضاق العيش علي الناس، وطارد أهل القاهرة.. النوبيين بكلمات عنصرية (يا أسود- يا بربري) فيحكي لنا الكاتب معاناة أسرة نوبية بسيطة؛ اضطرت لترك الأب في القاهرة, تنتظر “الطرد” المأمول.
أما القصة الأخيرة فهي “حكاية للنسيان” تحكي عن مأساة التهجير الكبير من قرى النوبة في العام 1964، إلى وادي كوم امبو.
وجد النوبيون الودعاء الطيبون أنفسهم في الصحراء، بعد أن كانوا علي ضفاف النيل, ولإنهم كانوا يمارسون الزراعة والصيد في النوبة القديمة؛ لم يجدوا شيئا يفعلونه سوى لعب السيجة، ومكافحة العقارب والثعابين.
ويرصد الكاتب ظاهرة موت كبار السن، وحديثي الولادة في النوبة الجديدة، التي لم تجد البيروقراطية المصرية تفسيرا لها، رغم أنها رصدت الظاهرة, ويخبرنا الكاتب كيف أن البيروقراطية المصرية، حين هجّرت النوبيين في مراكب “البوستة” رفضت أن تسمح لهم باصطحاب كلابهم معهم. ويصوِّر لنا الكاتب المشهد, إذ وقفت كل الكلاب في القرية؛ تودع الأهالي المبحرين في المراكب, بعد أن تركوا الكلاب لمصيرهم المحتوم.
يحكي الكاتب عن “بشير حسن” وهو صاحب السوبر ماركت الوحيد في النوبة الجديدة, هذا الانتهازي الذي يبيع لأهل قريته علي النوتة, وفي الوقت ذاته يُحصِّل كل التحويلات التي تَجِئ من المقيمين في القاهرة لذويهم, فلا يعرف المواطن كم استقبل بشير حسن من تحويلات القاهرة, وكم هو الدين الذي دونه عليه أصلا.
المفارقة هنا حين قرر بشير حسن أن يغامر، وأن يذهب إلى النوبة القديمة؛ لِيحْصُل علي المقتنيات التي تركها أهل القرية في بيوتهم المهجورة, وأن يعطيهم قروشا ثمنها لها, ويأخذ معه عبده المحرر, الذي يستمر في العمل خادما له, وهنا كانت المفاجأة؛ حيث تقرر كلاب القرية في النوبة القديمة التي تركها أصحابها أن تتخذ من بشير حسن الانتهازي وليمة لها!
المجموعة ممتعة في أسلوبها وسردها, ربما مشكلتها الوحيدة، تكرار الأسماء نفسها في كل قصة.
بطاقة تعريف بالكاتب يحيى مختار
هو أديب وكاتب مصري نوبي. ولد عام 1936، في قرية الجنينة الواقعة على حدود مصر والسودان.
انتقل الكاتب مع أسرته إلى القاهرة، وهو في الثامنة من عمره، ولم يكن يعرف كلمة واحدة باللغة العربية، ما شكَّل له تحديا كبيرا؛ كي يمتلك ناصية اللغة والقدرة على التعبير بها. وما زال هذا الأمر يُشكّل هَمًّا كبيرا لديه؛ حيث يحرص على العمل المتأني وانتقاء تعبيراته وتراكيبه اللغوية بعناية؛ حتى يصل إلى الشكل الذي يشعره بالرضا، وهو ما جعله مُقلًّا في أعماله.
تميزت أعماله بالتعبير بعمق عن الهوية النوبية والأحوال الصوفية. صدر له أربع روايات فقط وأربع مجموعات قصصية.
تخرج في كلية الآداب من قسم الصحافة عام 1963 عمل في قسم التوزيع بمؤسسة أخبار اليوم وفضل أن لا يعمل في الصحافة حتى لا تؤثر اللغة الصحفية السريعة والبسيطة على كتاباته الأدبية.
حصل يحيى مختار عام 1992، على جائزة الدولة التشجيعية عن مجموعة “عروس النيل”.
أعماله:
“عروس النيل” مجموعة قصصية – 1990.
“ماء الحياة” – مجموعة قصصية – 1992.
“جبال الكحل” رواية -2001.
“مرافئ الروح” رواية- 2004.
“أندو ماندو” مجموعة قصصية – 2009.
“تبدد” رواية – مرثية لقرية الجنينة والشباك- 2009.
” كويلا” مجموعة قصصية – 2010.
” جدكاب” رواية – 2015.