رؤى

كيف قرأ هيكل الوثائق الإسرائيلية؟

في العام 2000، وفي مطبوعة وجهات نظر المصرية؛ فاجأ محمد حسنين هيكل، القراء بنشره ما أفرجت عنه دوائر العدو الصهيوني من وثائق تخص وزارة الخارجية، ومكتب رئيس الوزراء مؤسس الدولة ديفيد بن جوريون.. واليوم بعد مرور أربعة وعشرون عام من نشرها, رأيت أن أعيد قراءة الفكر الاستراتيجي لمؤسس الكيان، حتي نفهم كيف تفكر إسرائيل.

تنقسم هذه الوثائق إلى قسمين: رؤية بن جوريون لمصر قبل ثورة يوليو، وبعد ثورة يوليو.. وقد لفت نظري ذلك التناقض الذي وقع فيه بن جوريون في نظرته لمصر إذ نبعت من أساطير توراتية, تخلط بين الأساطير والتاريخ, رغم  كونه علمانيا أو ملحدا, لم ينشغل بن جوريون بمصر في بداية تأسيس الدولة، إذ كان يقسمها إلى قسمين: قسم الباشوات الأتراك وخدمهم من الفلاحين  المصريين (الأمراء الألبان والشركس وعبيدهم من المصريين) وكذلك شعب مصر.. هذا المزيج من الذل والإدعاء.

في 29 مايو 1949، وبعد إنتهاء هدنة رودس فبراير 1949، وفشل الصهاينة في تحويل الهدنة لمحادثات سلام مع الأطراف العربية وضعت الاستراتيجية التالية:

بدأ بن جوريون كلامه بأن جيش الدفاع حقق نصرا مؤزرا، واستولي علي 78% من أرض فلسطين أي أراض أكبر من قرار الأمم المتحدة, العرب يرفضون السلام ولكن ينبغي أن ننسي السلام لمدة عشر سنوات، فلا خطر من الأردن فملكها عبد الله الأول، متفاهم معنا وقد حصل علي الضفة الغربية, وأراحنا من الخزان البشري, لبنان لا يمثل ولن يمثل أي خطر علي الأطلاق, كما أن لدينا أصدقاء فيه – يقصد موارنة مثل شمعون والجميل- سوريا لا تشكل خطر, وقد انشغل جيشها بالسياسة الداخلية, أما مصر فهي مسألة أعقد, في الوقت الحالي لا خطر منها, لكنها خطر محتمل في المستقبل, ومصر هي الدولة الحقيقية الوحيدة في الوطن العربي, ونحن لا نريد منها سوي أن تكون داخل حدودها فقط, بيننا وبينهم صحراء عظيمة, لو استطعنا الإتفاق معهم سوف تكون “غزوة عظيمة” -tremendous conquest  يبدو لافتا استخدامه هذا المصطلح العسكري, وفي سبيل ذلك ينبغي عمل الآتي:

  • ينبغي أن تبقي مصر داخل حدودها والأمريكان والأوربيون ينبغي أن يدركوا ذلك من الناحية الاستراتيجية ومن ناحية تأمين البترول.
  • يجب منع مصر من إقامة أي تحالفات عربية من وراء إسرائيل خصوصا مع سوريا بالذات ثم مع السعودية والعراق.
  • من الضروري توسيع العازل الصحراوي مع مصر.. هذا العازل لابد وأن يشمل سيناء المصرية والنقب في جنوب فلسطين.
  • في حالة حصر مصر داخل حدودها ينبغي منح إسرائيل كل المزايا الاستراتيجية التي كانت تمتلكها مصر، والتي جعلت نابليون يصفها بأنها أهم بلد في الدنيا، وهي الموقع الاستراتيجي بين قارات العالم الثلاث, والبرزخ الواصل بين البحر الأحمر والمتوسط بحيث تحفر قناة تضاهي قناة السويس, أو تمتد عليه خطوط سكك حديدية, أو خط أنابيب بترول (كان هذا هو الدافع للاستيلاء علي أم الرشراش المصرية في مارس 1949 وتحويلها الي إيلات) وكذلك ينبغي التوصل لاتفاقيات تربط إسرائيل بالمكونات المختلفة عن المكون الغالب في المنطقة مثل: الأكراد في العراق وسوريا، وكذلك تركيا وإيران.. ويتساءل بن جوريون هل يمكن إقامة علاقات مع الموارنة في لبنان, وكذلك الدروز وخاصة أن جزءا كبيرا منهم يخضع لدولتا, وهل يمكن إقامة علاقات مع العلويين في سوريا؟ أما مسيحيو مصر فحالة ميئوس منها، لأنهم حريصون علي علاقتهم بالمسلمين، ويطغي هذا علي أي اعتبار آخر.
  • يطرح بن جوريون قضية الجاليات اليهودية في العالم العربي.. وكيفية الإستفادة منهم.
  • أن تحقق اسرائيل لنفسها قوة ردع تعادل كل القوي العربية مجتمعة إذا تجمعت, تواجه بها الخزان البشري, وتواجه بها مصر إذا تغيرت أوضاعها.
  • يجب نقل المعركة إلى أرض العدو، لأن رقعة أرضنا ضيقة, وهذا الجيش مهيأ لأن يحسم المعركة في أيام، لأن الجيش الشعبي مكون من عمال في المصانع وفلاحين في المزارع لا ينبغي أن تتوقف.
  • يجب أن تكون لدى إسرائيل علاقة بقوة عظمي تسندها عند الخطر, ونقل المعركة إلى أرض العدو أمر هام لا ينبغي التهاون فيه.
  • يبدي بن جوريون قلقه أن يظهر بين العرب قائد يمتلك الكاريزما يجمع مقدرات العالم العربي ويقوده ضد إسرائيل.

بدأ بن جوريون بعد ثورة يوليو وحسم الأمور لصالح جمال عبد الناصر في صراعه علي السلطة مع محمد نجيب – يساوره القلق, وحث شيمون بيريز للبحث عن امتلاك إسرايل لقنبلة نووية, وبالفعل كلّف مستشاره العلمي إرنست بيرجمان، بالعمل مع شيمون بيريز لامتلاك هذا السلاح, خاصة أن مصر توصلت لاتفاق لجلاء القوات البريطانية من مصر أكتوبر 1954،

هيكل وعبد الناصر

كان الخلاف بين بيريز وبيرجمان علي أن بيرجمان كان يريد أن  تمتلك إسرائيل المعرفة التقنية, وتصنع هي القنبلة, وكان رأي شيمون بيريز أن تشتري إسرائيل القنبلة لا أن تصنعها, وانتصر بن جوريون لرأي بيريز.

ازداد هاجس ديفيد بن جوريون من مصر بعد دور مصر في استبعاد إسرائيل من مؤتمر باندونج (مؤتمر إبريل 1955، والذي أسس حركة عدم الانحياز من حركات تحرر وطني في قارات العالم الثلاث) وكانت مصر قد أقنعت  دول آسيا المستضيفة للمؤتمر (بورما واندونيسيا) أن مشاركة إسرائيل واعتبارها دولة آسيوية غير صحيح, فهي دولة لا تطبق قرارات الأمم المتحدة، وخاصة القرار 181.

وكانت مصر من الدول التي رفضت القرار في حينه, وناور عبد الناصر, وأبلغ محمود فوزي أنه إذا قبلت إسرائيل قرار الأمم المتحدة؛ ستقبل مصر أن تشارك في المؤتمر, وبطبيعة الحال رفضت إسرائيل واستبعدت نهائيا من مؤتمر باندونج، وكل مؤتمرات حركة عدم الانحياز, بل وخنقها واعتبارها دولة مارقة وغير آسيوية.

وتظهر الوثائق كيف تآمرت اسرائيل مستغلة الجاليات اليهودية في مصر بتنفيذ أعمال إرهابية لزعزعة الاستقرار ( فضيحة لافون) وتظهر الوثائق  بعدها, كيف أن بن جوريون أمر بشن غارة علي قطاع غزة في 28 فبراير 1955، أدت إلى استشهاد سبعة وثلاثين عسكريا  مصريا, وكانت الغارة إحراجا للنظام الثوري المصري.. وهنا كتب عبد الناصر إلى الولايات المتحدة أنه إذا لم يحصل علي السلاح سوف يطلبه من أي جهة أخري.

وبالفعل حصل عبد الناصر علي صفقة السلاح التشيكية من الإتحاد السوفيتي, وهنا طلبت وزارة الخارجية الإسرائيلية (أبا ايبان – جدعون ليفي) من رئيس الوزراء شن حرب وقائية علي مصرلإسقاط نظام عبد الناصر سبتمبر 1955.

وهنا كتب شيمون بيريز الي ديفيد بن جوريون مذكرة يقل فيها:

(الحل الوحيد لتحقيق أمن اسرائيل هو إسقاط ناصر, ولذلك شن الحرب الوقائية ضرورة قبل أن تستوعب القوات المسلحة المصرية الأسلحة السوفيتية, وإسرائيل مطالبة بالحصول علي مدد إضافي من الأسلحة, وإسرائيل غير ملزمة بإيجاد دافع لشن العدوان علي مصر, مجرد رفض مصر توقيع إتفاق سلام مع اسرائيل هو استفزاز كاف جدا لشن الحرب).

وأطلع بن جوريون علي مذكرة شيمون بيريز وطلب من رئاسة الأركان إعداد خطط لغزو غزة وفصل القطاع عن مصر, وخطة للاستيلاء علي خط العريش – رأس محمد وخطة لاحتلال شرم الشيخ وخطة لاحتلال سيناء كلها.

وهنا تظهر الوثائق مصطلح (الأرض مقابل السلام) ويري بن جوريون أن احتلال أرض عربية وإجبار الدولة العربية علي توقيع اتفاق سلام مع الصهاينة (لكل شيء ثمن) إذا أرادوا أرضهم.

ويضرب بن جوريون مثلا باحتلال العريش ورفح في العام 1948، وكيف أن الأمر مثل فضيحة للملك فاروق ولمصر, كيف تواجه مصر العرب وأرضها محتلة من دولة صغيرة, وقتها وسَّط فاروق أمريكا وبريطانيا لخروج اسرائيل من رفح والعريش, ويري ديفيد بن جوريون أن الأمر يمكن تنفيذه مع ناصر.

وتمضي الوثائق حتي تصل إلى مؤامرة سيفر مع بريطانيا وفرنسا للعدوان الثلاثي علي مصر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock